لعبت المصادفة التاريخية دورها في أن تترافق الاصلاحات التي بدأها السلطان محمود الثاني في عاصمة الخلافة مع تلك الخطوات الاصلاحية التي سبقه إليها والي مصر الباشا محمد علي. ولم تقتصر المصادفة على الفترة الزمنية بل في تشابه اساليبها وشروطها الدولية والظروف التي مرت بها وصولاً إلى النهايات المتقاربة في نتائجها. فالوالي واجه مقاومة داخلية كذلك السلطان. واضطر الوالي إلى استخدام القوة للقضاء على المعارضة وفعل السلطان الأمر نفسه. كذلك اضطر الوالي للتعاون مع الغرب لمساعدته في انجاز ما كان يراه من إصلاحات في المناهج التربوية والدينية والإدارية والضريبية، وكرر الاسلوب نفسه السلطان مستخدماً منهج محمد علي في مصر. الوالي ارسل البعثات الطلابية للدراسة في معاهد الغرب وسار السلطان على الاتجاه نفسه فأرسل أيضاً بعثات للدراسة في معاهد الغرب.
المصادفة إذا كانت محكومة من البداية بالشروط التاريخية، فالاصلاح على الطريقة الأوروبية كان من الصعب التوصل إليه من دون مساعدة أوروبية. والأخذ بوسائل التقدم كان يتطلب الانفتاح والتعاون مع الدول والمؤسسات الأوروبية لتزويد الدولة بكل ما تحتاج إليه من علوم وطب ومصانع ومعاهد تدريب وتعليم وتثقيف. وهذا الأمر حصل في فترة متقاربة بين ولاية محمد علي وحكم محمود الثاني.
وعانى الأول من الصراع الدولي والتنافس الفرنسي - البريطاني على المنطقة فتعاون مع الفرنسيين لمواجهة الدعم البريطاني لبقايا المماليك في مصر. والثاني أيضاً عانى من الصراع الدولي وضغوط روسيا القيصرية على جبهاته العسكرية فاضطر إلى التعامل مع بروسيا (ألمانيا لاحقاً) لمساعدته في تحديث جيشه وتطوير معداته بعد الاختراقات التي تعرضت لها السلطنة في مناطقها الأوروبية.
هذا التشابه يؤكد مدى صعوبة الاصلاح (التحديث) من دون معونة أوروبية. كذلك يؤكد أزمة التحديث في المنطقة العربية الإسلامية التي كان من الصعب أن تقوم في ظل التدخلات الأوروبية ودور تلك الدول في احباط اي محاولة للاصلاح المستقل عن هيمنتها. فالدواء هو الداء نفسه. وصاحب القرار كان يتحكم بدرجة الاصلاح ويعاين مستوى خطورة التحديث. فأوروبا كانت تشجع السلاطين والولاة على ضرورة الأخذ بأسباب التقدم. وكان هؤلاء يستجيبون ويفعلون ما تأمرهم به بعثات الخبراء والهيئات الاستشارية. وحين تصل مشروعاتهم إلى منطقة خطرة كانت الدول الأوروبية المتنافسة تتغلب عليهم وتتفق مع بعضها وتتحالف لاسقاط هذه التجربة أو تلك. وهذا بالضبط ما حصل مع الباشا في مصر والسلطان في تركيا.
حين رحل المؤرخ الجبرتي في العام كان هذا الشيخ توقف عن كتابة تاريخه في العام . آنذاك كان الشيخ أصبح خارج زمن التحولات التي قادها بالقوة الباشا محمد علي. فهذا الوالي نجح منذ تكليفه بإدارة مصر في تحقيق خطوات إصلاحية أسهمت في تحديث هيكلية الدولة ونقلها من عصر إلى آخر.
بدأت ولاية محمد علي بالمشكلات الداخلية والدولية منذ لحظة وصوله مصر من مقدونيا في العام بتكليف من السلطان العثماني. فهذا التكليف أغضب بريطانيا التي كانت تعتمد على بقايا المماليك في إدارة مصالحها. فقررت فوراً إرسال حملة عسكرية بقيادة الادميرال فريزر لمساعدة اعوانها من المماليك. ونجح البريطانيون في الاستيلاء على الاسكندرية فاضطر الباشا إلى وقف معاركه مع المماليك واستنجد بشيوخ الأزهر وطالبهم بدعمه شعبياً للتصدي ومواجهة حملة الفرنجة الجديدة. وتحرك الفرنسيون بدورهم واستغلوا الخلاف العثماني - البريطاني ودعموا محمد علي في معركته العسكرية فنجح في انزال هزيمة بالإنجليز في موقعة الرشيد واجبرهم على مغادرة الاسكندرية في العام .
رفع الانتصار شعبية الباشا وخصوصاً بعد أن تحالف مع شيوخ الأزهر وتعاون مع نقيب الاشراف عمر مكرم. ولكن الانتصار العسكري الذي حصل بدعم عامة الشعب كان من الصعب التوصل إليه من دون مساعدة عسكرية فرنسية. وبسبب هذا الوضع كان على الباشا أن يختار بين تطوير تحالفه مع العامة (الإسلام الأهلي) أو تطوير أجهزة الدولة وتحديثها باستكمال تحالفه مع فرنسا. ومال الباشا إلى فرنسا وأخذ يطور علاقاته واتصالاته بها في مختلف الميادين مغادراً في الوقت نفسه مواقعه التقليدية التي اعطته شرعية تاريخية في مواجهة الفرنجة.
بدأ محمد علي سياسته التحديثية منذ العام مركزاً جهوده بداية على نطاقين: التعليم (إنشاء مدارس حديثة تنافس مدارس الكتّاب الإسلامية وجامع الأزهر) والجيش (بناء كلية عسكرية للتدريب). فأرسل أولاً بعثات طلابية إلى مدن إيطالية (ميلانو وفلورنسا) لدراسة العلوم العسكرية وتعلم الطباعة وفن بناء السفن. وبعدها تحول ثانياً إلى فرنسا فأخذ الخبراء يشرفون على بناء جيشه وتطويره وتجهيزه بالمعدات الحديثة.
نجح الباشا بالتعاون مع فرنسا في فتح السوق المصرية وتحديث التعليم وإنشاء المدارس التقنية وبناء المصانع وإدخال زراعات جديدة (القطن مثلاً) وتشييد الترع والقناطر على النيل وتوسيع الطرقات وربط القاهرة بالريف وضبط المعاملات المالية والتجارية والإدارية وتنظيم الجباية والضرائب وتحصيل الأموال الأميرية ومد نفوذ الدولة إلى كل الفروع والشبكات الأهلية وصولاً إلى تجدد الصدام مع المماليك وشيوخ الأزهر وقائد العامة (عمر مكرم). فالنجاح في الإصلاحات وتحقيق خطوات في اكتساب معرفة بأسباب التقدم شجع الباشا على تعزيز سلطته المحلية والانفراد بالدولة.
استغل الباشا ما انجزه من تحديث داخلي للقضاء على خصومه فبدأ بشيوخ الأزهر حين أصدر سلسلة قرارات اضعفت سلطتهم ونفوذهم. وبعد أن انهارت قوة العلماء عزل عمر مكرم في العام ، ثم أقدم على تصفية المماليك والقضاء عليهم نهائياً في مصر في العام .
أصبح الباشا الآن أمير مصر الحديث ولم تعد هناك من قوة محلية تنافسه على السلطة. وبسبب احساسه بالقوة طور علاقاته مع فرنسا وأخذ يتصل بجماعة سان سيمون (الاشتراكية المسيحية) لمساعدته في وضع تصورات معاصرة لبناء دولة مصرية حديثة.
آنذاك كان السلطان محمود الثاني يراقب مصر ويتابع بإعجاب إنجازات الباشا وهي عبارة عن إصلاحات وتحديثات حاول اسلافه السلاطين تحقيقها وفشلوا بسبب اصطدامهم بالمعارضة الأهلية الداخلية.
أعجب السلطان بالباشا وبدأ يقلده في أساليبه التي اتسمت بداية بالليونة والتقرب من العلماء وعدم اغضاب العامة وتطمين الانكشارية (الجيش التقليدي) من خطواته.
حاول محمود الثاني بداية تجديد حركة الإصلاح التي بدأها سليم الثالث وانتهت بمقتله في العام . إلا أنه واجه معارضة قوية من الانكشارية في العام نفسه وقاموا بانتفاضة شعبية انتهت بالقضاء على الصدر الأعظم مصطفى البيرقدار. خاف السلطان فتراجع عن إصلاحاته لإخماد الثورة. وبعد الهدوء أخذ محمود الثاني يتقرب من العلماء وأخذ يضغط عليهم لإصدار فتاوى تشرع التحديث وتجيز الاستنجاد بالغرب لتعلم فنون الحرب والقتال. وبمباركة العلماء بدأ السلطان يتقدم ويرسخ سلطته من خلال تحديث أجهزة الدولة مستعيناً بالدولة البروسية (ألمانيا).
حقق السلطان مبتغاه في خطواته الأولى. فأنشأ مدرسة حربية لتدريب الضباط على نسق الكليات العسكرية البريطانية. وأدخل نظام التجنيد الاجباري. وأرسل بعثات إلى الخارج للدراسة والتدريب. وطور تعاونه مع بروسيا لتأهيل الجيش الجديد فقام ببناء فرق عسكرية وأنشأ قوة من سلاح المدفعية، ثم أنشأ فرقة مشاة بمساعدة خبراء أجانب. ثم اتجه لإصلاح القوات البحرية (بناء اساطيل حديثة) كما فعل الباشا في مصر، وبنى المدرسة الهندسية البحرية، وألحقها بمؤسسة تصنيع للسفن ومعهد للتدريب على القتال البحري.
كل هذه الإنجازات حققها السلطان بالتعاون مع معاهد ومؤسسات بريطانية وألمانية (بروسيا)، بينما حقق الباشا إنجازاته بالتعاون مع مؤسسات ومعاهد إيطالية وفرنسية. إلا أن النتيجة كانت متشابهة. فالسلطان أراد من التحديث تعزيز سيطرته للانقلاب على الانكشارية لاحقاً والباشا أيضاً استخدم الإصلاحات لتعزيز قبضته على السلطة الداخلية وإبعاد الأزهر من صورة المشهد السياسي تمهيداً للقضاء على المماليك.
هذه الخطوات المتشابهة على مختلف المستويات كرست لاحقاً ما يسمى باستخدام «الخارج» في عملية الصراع ضد «الداخل» واعطت فرصة للقوى الأجنبية (الفرنجة) لمعاودة تدخلهم في الحياة العامة للناس وفي توجيه السلطة وإدارتها وفق مصالحها. وحين كانت تلتقي المصالح بين «الخارج» ورجال السلطة كانت الدول الأوروبية تتنافس لتدعم بالمال وتفتح الأسواق وتصدر الخبراء. وعندما تتخالف وتتصادم المصالح كانت الدول الأوروبية تتوافق على وقف التنافس وتتحالف لوقف التقدم العربي - الإسلامي وصده عن طريق القوة أو بالحصار.
المشكلة واحدة لأن بداية «التحديث» كانت مشروطة ومحكومة بالسقف الدولي. كذلك محاولات الخروج على الإرادة الدولية كانت تعني خطوة للاستقلال وبداية تفكير بالتمرد. وفي الحالين كانت هناك دائماً محاولة للإصلاح تقابلها ضربة عسكرية أوروبية تحبط استكمال مشروع الإصلاح وإعادة التحديث إلى مربعه الأول والبدء من جديد في مشروع آخر، ولكنه ليس مختلفاً عن شروط ما سبقه من محاولات.
آنذاك كان الشيخ/ المؤرخ يراقب ويسجل، ولكنه فعلياً أصبح خارج تحولات الزمن. فالنماذج من أمثاله لم تعد تناسب حاجات الباشا وطموحاته. فالباشا الآن أصبح نسخة جديدة من نمط «الأمير الحديث». فهو أخذ يتهرب من أشكال الجبرتي ويتقرب من أمثال سان سيمون. كذلك لم تعد تنفعه تلك الإرشادات والفتاوى التي تجمعت في كتب التراث، بل أصبح يميل إلى تشجيع الطلبة على ترجمة الكتب الحديثة التي أنتجتها أوروبا في زمنها المعاصر.
وبسبب هذا التحول المفارق بين زمنين أخذ الباشا بتشغيل مطبعة بولاق التي استقدمها معه بونابرت إبان غزوته. وقامت الدولة بإعادة طباعة بعض كتب التراث التي تخدم السلطة، ولكنها أيضاً، وهذا هو الملفت في المسألة، شجعت على ترجمة وطباعة كتاب مكيافيلي «الأمير» وصدر في نسخته الأولى في العام .
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1379 - الخميس 15 يونيو 2006م الموافق 18 جمادى الأولى 1427هـ