من الآن وحتى موعد الانتخابات التشريعية القادمة - الأولى في عهد الملك محمد السادس - المقررة في العام ، ستحاول التيارات الإسلامية المغربية، على اختلاف مشاربها، تسجيل النقاط التي تمكنها من إثبات وجودها، والتأثير في مجريات الحياة السياسية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، التموضع بقوة على خريطتها. فبين «حزب العدالة والتنمية» (المعتدلة) و«جمعية العدل والإحسان» (المتشددة)، تبحث الدولة منذ الآن، عن الوسائل الآيلة إلى تحجيم الأولى وقطع الطريق على تدخلات الثانية. برهان صعب في ظل تراجع نفوذ الأحزاب التاريخية.
لم يعد يقتصر الحديث داخل المغرب عن «التسونامي» المرتقب لـ «حزب العدالة والتنمية»، بل تجاوز الحدود بحيث باتت وسائل الإعلام الغربية، الفرنسية منها تحديداً، الإشارة إلى تنامي قوة هذا الفصيل الإسلامي الموجود حالياً في الجمعية الوطنية. وإذا كان سعدالدين العثماني، يرد في كل مناسبة على هذه «الشائعات المغرضة»، بحسب قوله، الهادفة إلى تحريض الجميع على التنظيم الذي يقوده، إلا أن الحقائق على أرض الواقع، تؤكدها إلى حد كبير. فالأمين العام لهذا الحزب، الذي عاد حديثاً من زيارة للولايات المتحدة الأميركية، يؤكد أن حزبه ليس وليد الساعة ولا الظروف، بل تعود جذوره إلى مرحلة ما قبل الاستقلال وبعده. فالدليل على ذلك، وجود رموزه التاريخين من أمثال عبدالكريم الخطيب. وإذا كان هذا الفصيل الإسلامي قد تمكن من الحصول على مقعداً في البرلمان الحالي فهذا إذاً ليس من باب المصادفة ولا نتيجة لتبني السلطة له. يضيف العثماني قوله، إنه إذا وجد الناخبون المغاربة أن حزب العدالة والتنمية يعبّر عن آرائهم وطموحاتهم في الوقت الذي لم يفِ فيه الآخرون بالوعود التي قطعوها، فإننا لا نستطيع رفض خياراتهم.
ففي حين تستمر أسهم هذا التيار الإسلامي بالارتفاع، يتابع المراقبون عن كثب حال التخبط التي تسود غالبية الأحزاب السياسية المغربية، يساراً ويميناً ووسطاً. ما بدأ يؤلف، على ما يبدو، الدوائر العليا في الدولة، بما في ذلك القصر الملكي الذي يأمل بألا تؤدي الانتخابات التشريعية القادمة التي من المنتظر أن تجرى بشفافية مطلقة ومن دون تدخل من أجهزة وزارة الداخلية كما كان يحدث في الماضي، إلى اختلال فاضح في معادلة التمثيل النيابي لصالح الفريق الإسلامي هذا، وبالتالي، يعزز من حظوظه في تشكيل الحكومة القادمة، أو على الأقل، استحواذه على عدة حقائب وزارية.
في خضم هذه التوقعات والتحليلات السياسية المطروحة، يتساءل المراقبون عن الدور الذي ستضطلع به «جمعية العدل والإحسان» التي بدأت تحركها حديثاً عبر حملة «الأبواب المفتوحة» التي أدت إلى اعتقال أكثر من مئتين من أعضائها تم الإفراج عن غالبيتهم لاحقاً. فالتيار المتشدد الذي يقوده الشيخ عبدالسلام ياسين، المعترف به ضمنياً والمحظور قانونياً، لا يمكنه المشاركة مباشرة في الانتخابات القادمة. لكنه، من ناحية أخرى، قادر على التأثير في مجرياتها. من هنا يطرح السؤال: هل سيعطي مرشد هذا التيار الضوء الأخضر لمريديه بالتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، ما سيرجح من دون شك كفته في جميع المناطق، أم على العكس من ذلك، سيعطي توجيهاته بالامتناع عن التصويت كي يكشف القوة الفعلية لغريمه؟ من الصعب التكهن بذلك منذ الآن، وخصوصاً أن العدل والإحسان يعاني حالياً من تجاذبات حادة في قيادته. ذلك، في ظل اشتداد المرض على الشيخ ياسين. ففي الوقت الذي ترفض فيه مجموعة قيادية، من بينها ابنته ناديا وزوجها، الاعتراف بشرعية هذه الانتخابات وبالتالي مقاطعتها، تبدي مجموعة أخرى، ترفض «التوريث» وسلوك هذا الطريق السلبي الذي أثبت عدم جدواه، المشاركة من «خلال اللعب على هامش النظام» من دون الاعتراف به، بمعنى ترك الحرية للأعضاء والمناصرين بالتصويت. في هذا السياق، تشير التقارير الأخيرة لدى وزارة الداخلية إلى أن هذا الجناح بات الآن الأقوى في المعادلة الداخلية للجمعية.
يؤكد المتخصصون في الشأن الإسلامي المغاربي أن أفكار تياراته المتعددة بما فيها الصوفية، تختلف تماماً عن تلك الموجودة في المشرق العربي. وما تصريح سعدالدين العثماني لدى فوز حركة «حماس» بالانتخابات التشريعية الذي جاء فيه: «إن حزب العدالة والتنمية ليس «حماساً»، والمغرب ليس غزة». كذلك، مشاركة عمدة مدينة مكناس، العضو في الحزب في الاحتفال الذي تم حديثاً في مدينة «نيم» الفرنسية بمناسبة مرور سنة على توأمتها مع مدينة «ريشون - صهيون» الإسرائيلية. ذلك، كون مكناس قد جرت توأمتها مع المدينة الفرنسية إلا دليلاً على هذا التشخيص. ويتقاطع هذا الموقف مع ما أعلنته ناديا ياسين بعد عودتها من أميركا، من تحفظ حيال تصاعد نفوذ «حماس» الذي يلتقي حكماً، بحسب قولها، مع الحزب الذي يرأسه شارون. لذلك، فإن فوز «حماس» لن يجعلنا نفقد عقلنا ونرمي بأنفسنا في «تهلكة الديمقراطية» التي يصورها لنا النظام المغربي.
على أية حال، ينبغي التذكير بأن العثماني كما ناديا ياسين قد زارا حديثاً الولايات المتحدة الأميركية، والتقيا الكثير من المسئولين، ما أزعج السلطات المغربية التي لم تنظر بعين الرضا إلى هذا «الانفتاح» الذي يصبّ في خانة التدخل بالوضع السياسي الداخلي، علماً بأن السفير الأميركي بالرباط وفريقه يلتقون بقيادات التيارات الإسلامية بشكل شبه منتظم. فاستطلاع الرأي الذي أجرته «المؤسسة الجمهورية العالمية - أي. آر. آي» (أميركية) بشأن النتائج المحتملة لتوجهات المغاربة الانتخابية، أعطى فكرة عن التقدم الملحوظ لحزب العدالة والتنمية الذي يواكبه عن قرب الفصيل اليساري الأول في البلاد «الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية» بقيادة العضو في حكومة إدريس جطو الحالية محمد اليازغي. هذا التقييم، بغض النظر عن واقعيته المزعجة، يترك هامشاً للسلطة كي تسيطر على مجريات اللعبة في حال عزز الفصيل الأخير من مواقعه من الآن وحتى تاريخ الاستحقاق الانتخابي. فالدولة والطبقة السياسية، إضافة إلى القوى الاقتصادية وجزء كبير من مؤسسات المجتمع المدني، قد قررت التحرك منذ الآن للالتفاف على مجيء حزب العدالة والتنمية، كذلك الاتحاد الاشتراكي بقوة.
وذهبت بعض الأوساط إلى حد اتهام التيارات الإسلامية بتكوين الأداة الفاعلة للتدخل الأميركي المباشر في رسم الخريطة السياسية عبر تبادل الأدوار، من شأنها أن تقلل من هامش المناورة لدى النظام، ما سيسمح لها بالاستفادة أكثر فأكثر من الفرص المتاحة. في هذا الإطار، يعتبر رضا بن خلدون، أحد نواب حزب العدالة والتنمية، أن الديمقراطية تشكل دفعاً للخط الإسلامي - الوطني. وإذا ما وصل الحزب بأكثرية إلى البرلمان، فهو سيحكم من دون التنازل عن أفكاره ومبادئه، مذكراً بما هو حاصل مع نظيره التركي الذي يحمل التسمية نفسها.
وإذ كانت قيادة وقواعد حزب العدالة والتنمية مقتنعة تمام الاقتناع بالوصول إلى المشاركة بفعالية في الحياة السياسية، وبالتالي في السلطة، فإن جمعية العدل والإحسان تعاني من حالة انفصام على هذا المستوى. ففي الوقت الذي يبذل فيه مريدو الشيخ ياسين جهوداً مضنية لإقناع التكتلات الداخلية بـ «رؤية» مرشدهم الروحي، التي تعتبر العام عام انهيار النظام المغربي، بدأت بوادر التمرد على التنظيم الهرمي والتبعية العمياء تطفو على السطح؛ بحيث لم يعد يخفي بعض القادة وجهة نظرهم حيال ضرورة المشاركة في اللعبة الدائرة، وبالتالي العمل على إقناع السلطات برفع الحظر الرسمي عن نشاط الجمعية واعتبارها فصيلاً سياسياً كغيرها من القوى.
ويتخوف قادة الجناح من عودة جمعيات الطرق الصوفية إلى الساحة، ما من شأنه أن يكون على حساب جمعية العدل والإحسان المنبثقة أساساً من صلبها. ويدور الحديث عن الرجعة القوية، بعد غياب دام أكثر من سنة للطريقة «البوتشيشية»، الذي يتجاوز عدد مريدها الـ ألف، والتي يقودها الشيخ حمزة القادري البوتشيشي. ولا تعارض هذه الطريقة «أولياء الأمر»، أي النظام الملكي. فهذه القوة، وإن كانت أقل عدداً من العدل والإحسان (نحو ألف منتسب ونصير)، فإنها تشكل مصدر إزعاج لها، نظراً إلى امتداداتها الجغرافية والطبقية الواسعة. ومن النقاط السلبية الأخرى، اشتداد المرض على الشيخ ياسين الذي لم يعد يظهر للعلن منذ عدة أشهر، ما يؤكد البداية في حرب الخلافة. وتشير المعلومات في هذا الصدد، إلى تنامي قوة التيار الذي يريد المشاركة في التصويت بالانتخابات القادمة، والذي كان يقوده محمد شبيري (الذي توفي العام ). كل هذه العوامل من شأنها أن تفيد حزب العدالة والتنمية، كذلك السلطة التي يمكنها، والحال هذه، التفرغ لتحجيم نفوذه.
فالاهتمام المتزايد حديثاً بإصلاح بزمات المؤسسات الدينية الرسمية، بدءاً من وزارة الشئون الدينية (الأحباس)، وتعيين أئمة جدد من الحائزين الشهادات العليا، كذلك الأساتذة من حملة الاختصاص في المجال الديني، إضافة إلى المبادرة الأخيرة بتعيين مرشدة دينية لتوعية النساء والمشاركة في محو الأمية، يشكل البداية على طريق الالتفاف على نشاطات حزب العدالة والتنمية. ويترافق مع هذه الخطوات إعداد المشروعات الاجتماعية، بحيث لا يمر أسبوع من دون أن يفتتح الملك محمد السادس مشروعين أو ثلاثة في الأحياء والمناطق النائية الأكثر فقراً، ما سيجعل، بحسب المراقبين، مهمة قادة وكوادر حزب العدالة والتنمية أكثر صعوبة. في التوجه نفسه، بدأت الأحزاب السياسية، كالاتحاد الاشتراكي والاستقلال ومختلف التنظيمات اليسارية حملة مركزة على الإسلاميين الذين «يسهلون التدخل الخارجي»، الأميركي تحديداً، ما من شأنه العمل على إضعاف هذا الفصيل الذي تروّج له وسائل الإعلام الغربية بشكل ملفت، تاركة علامات استفهام كثيرة بشأنه
العدد 1374 - السبت 10 يونيو 2006م الموافق 13 جمادى الأولى 1427هـ