عندما تطل ذكرى يونيو/ حزيران ونحن في يونيو ، يكون لهذه الذكرى طعم المرارة، أكثر من أي وقت مضى. وحقيقة كهذه، لا يدرك معناها إلا من عاش الذكرى الأولى بآلامها وتحدياتها، وكلها تبدو اليوم ماثلة. بل إن ما يحدث اليوم، يمثل التراكم الفج لما كان في يونيو من آلام ونتائج.
الظاهرة الرئيسية لما تركه يونيو في حياتنا، كانت في الهزيمة العسكرية التي أطاحت بثلاثة من الجيوش العربية الأقوى والأهم في ذلك الزمان، وفي قيام «إسرائيل» - التي لم تكن في حينه سوى «دويلة العصابات» الصهيونية، كما كان يقال - باحتلال أراض عربية جديدة تتجاوز في مساحتها وأهميتها مرات عدة، المساحة التي أقيمت عليها «إسرائيل» في العام .
غير أن الأهم في نتائج ، كان ايقاع الهزيمة بالنظام العربي القائم في المستويين الاقليمي والقطري، وشملت الهزيمة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهو أمر اصر بعض الانظمة العربية على عدم الاعتراف به، وتجاوز ذلك إلى قول، إن هدف حرب حزيران في إطاحة «الأنظمة التقدمية» في سورية ومصر قد فشل. وإذا كانت المكابرة الرسمية العربية، تمثل أحد الأسباب في عدم رؤية الواقع كما هو، فإن ثمة أسباباً أخرى، كان من بينهما ضعف وتدني مستوى الخبرة والنخبة العربية الحاكمة، وغلبة المصالح الشخصية للحاكمين على المصالح العامة للعرب في مجموعهم وفي كل بلد من بلدانهم إضافة إلى الضعف الشديد الذي كانت تعانيه المجتمعات العربية جراء أمراض ومشكلات متعددة، بدا معظمها نتيجة فترة الاستعمار الطويل، التي كان العرب قد خضعوا لها، وقد خرجت بعض دولهم للتو من ظروف الاستعمار، فيما بعضها، كان لايزال تحت السيطرة الاستعمارية، كما هو حال فلسطين وجنوب اليمن وبعض دول الخليج العربية حينها.
وعلى رغم مأسوية ما حدث وخطورة نتائجه، ومن أجل تجاوز الظروف الصعبة التي تحيط بالحياة العربية، انطلقت مبادرات عربية لمواجهة ما حدث، وكان بين تلك المبادرات، دعوات اصلاحية ظهرت في غالبية الدول العربية، هدفت إلى إعادة ترتيب الواقع العربي في بناه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإعادة بناء الدولة العربية على أسس حديثة وعصرية، إضافة إلى طلب إعادة ترتيب علاقات السلطات العربية بمجتمعاتها.
وإذا كانت المبادرات تعددت، فقد ركز الأهم فيها على مطلب إعادة بناء الوحدة في الإطارين القطري والقومي. فتم تجديد الدعوات نحو إعادة بناء الوحدة الوطنية داخل البلدان العربية بعد أن اطاحت الصراعات السياسية بها، ومزقت سياسات الفئات الحاكمة تلك الوحدة، فقسمت الجماعة الوطنية على أسس ايديولوجية - سياسية تستند إلى الموالاة والمعارضة، أو قسمتها على أسس مناطقية أو جهوية، كما جرى تجديد الدعوة إلى التآلف القومي وصولاً إلى الوحدة اخذاً في الاعتبار مصالح واحتياجات العرب شعوباً ودولاً.
وتضمنت دعوات ما بعد يونيو ، مطالب تعزيز المشاركة السياسية والشعبية في الحياة العامة رداً على نهج الاستئثار الذي طبقته الحكومات، فركزت المطالب على فتح الأبواب أمام مختلف التكوينات السياسية والمجتمعية للمشاركة وفق أسس المصلحة الوطنية، وطالبت تلك الدعوات بأخذ واقع النساء في الاعتبار سعياً من أجل ما صار معروفاً في الوقت الحالي بـ «تمكين المرأة»، والاهتمام بموضوع الشباب على اعتبارهم يشكلون مستقبل الدولة والأمة.
ولم تغفل دعوات تلك الأيام مطالب تأمين الحريات العامة والشخصية للمواطنين، واشاعة اجواء الديمقراطية في مختلف مناحي الحياة الوطنية من أجل مشاركتهم الفعالة في تحقيق التقدم المطلوب، وتجاوز مجمل معطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتخلف وامراضه الناتجة عن المرحلة الاستعمارية أو نتيجة سياسات السلطات الحاكمة.
غير أن تلك المبادرات قوبلت بقليل من الاهتمام، أو بالتجاهل غالباً، واستمر النظام العربي في المستويين العربي أو القطري في السياسات السابقة لحرب حزيران، بل ان بعض «الأنظمة التقدمية»، رد بعنف وقسوة على المبادرات الاصلاحية ومطالبها، وصنفها في سياق ما وصف بـ «الهجمة المضادة» واعتقل بعضهم، ومضى إلى الأبعد بالإصرار على الاستمرار في سياق السياسات ذاتها، التي كانت قائمة قبل ، ما راكم الترديات في الواقع العربي، ودفع إلى مزيد من تدهور الحال في المستوى العربي العام وفي المستويات القطرية.
اوصلتنا تلك السياسات التي طبقت في نحو عاماً مضت إلى تدهور عربي على طريقة كرة الثلج. فغاب النظام العربي العام، ولم تبق سوى أشكاله الظاهرة، وصار مصير القطريات العربية على قاعدة انقسامات وحروب عرقية ودينية وطائفية، وتردى الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى ابعد حدود، وصار العرب شعوباً ودولاً على أبواب الخروج من التاريخ.
ووسط تلك اللوحة المظلمة من الواقع العربي، تتوالى دعوات الاصلاح ومبادراته في أكثرية البلدان العربية. بعض سلطات تلك البلدان يستمع لما يقال، ويفكر فيه ويمضي خطوات محدودة باتجاه الإصلاح والتقدم، وآخر خطواته خجولة وبطيئة، لكن غالبية الحكومات، تستمر في سياساتها متجاوزة ومتجاهلة كل المتغيرات والظروف الداخلية والخارجية، وكأنها تسير نحو الكارثة النهائية من دون ان تتعلم شيئاً من محصلة عاماً مضت دفع العرب كثيراً من فواتيرها
العدد 1374 - السبت 10 يونيو 2006م الموافق 13 جمادى الأولى 1427هـ