ففي سنة 1967، وبسبب الشعور بالذنب تجاه الهولوكوست، كانت إسرائيل تتمتع بدعم لا حدود له في معظم أوساط اليسار الأوروبي، بما في ذلك سارتر نفسه. وعلى النقيض من ذلك، كما لاحظ رودنسون في مقابلة مع مجلة منظمة التحرير الفلسطينية الرسمية، اقتصرت مشاعر التأييد للفلسطينيين على اليمين المعادي للسامية والماويين: «أهذه هي الأوساط التي تريدون كسبها»؟ هكذا تساءل وهو يحث الفلسطينيين على شرح قضيتهم لليبراليين الأوروبيين، وليس ببساطة «شطب جميع الناس الذين عبروا، في زمن معين، عن مشاعر متعاطفة مع (إسرائيل) والشعب الإسرائيلي». كذلك حذر، باستبصار ولكن بنجاح أقل، من أنه «في غمرة النضال الإيديولوجي ضد الصهيونية، فإن أولئك العرب الأشد تأثراً بالتوجه الديني الإسلامي سيستغلون الحساسيات الدينية القديمة والشعبية ضد اليهود عموماً، فيلطخون أكثر فأكثر سمعة قضية عادلة في الغرب. «السؤال هو ما إذا كان العرب راغبين في تقديم مثل هذا العون الثمين للصهيونية».
وعلى رغم مساندته بلا هوادة للحقوق الفلسطينية، لم يخفِ رودنسون خلافاته مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنه حظي باحترام محاوريه لأنه إنما عرض المشورة كصديق. والحق أن الفلسطينيين لم يعودوا يفتقرون إلى الأصدقاء بعد العام 1982 حين غزت «إسرائيل» الأراضي اللبنانية، وحين أخذ الرأي الليبرالي في الغرب ينقلب ضد الاحتلال وفي صالح دولة فلسطينية. ولكن الفلسطينيين، مثل الكرد، لديهم قلقة قليلة من الأصدقاء الذين يحدثونهم بالصراحة التي تحلى بها رودنسون. لقد حاول أن يخلص معارفه في منظمة التحرير من أوهامهم الأشد خطورة، مبتدئاً من فكرة أن يهود «إسرائيل» يمكن أن يطردوا عن طريق حرب العصابات، كما كانت عليه حال المستوطنين الفرنسيين في الجزائر. وبينما ظل يعتبر «إسرائيل» دولة استعمارية. استيطانية، فإن إقامة الدولة هي الآن حقيقة واقعة و «زمن مناقشة حكمة إقامتها قد ولى. محك الشجرة ثمارها». واليهود الإسرائيليون هم مجموعة إثنية. قومية وليس، كما لاحظ سنة 1969 في خطبة له أمام مجلس الشعب المصري، زمرة متنافرة من عصابات المحتلين الذين يمكن ردهم من حيث جاءوا بسهولة بالغة». وبذلك فإن لليهود الإسرائيليين حقوقهم الجماعية التي يجب أن يلتزم بها الفلسطينيون بهدف ضمان سلام عادل ودائم: «إذا كانت هناك مجموعتان إثنيتان أو أكثر في البلد الواحد، وإذا توجب تفادي خطر سيطرة مجموعة على أخرى، فعندئذٍ على المجموعتين أن تتمثلا كجماعة مميزة على المستوى السياسي، ويجب أن تحظى كل منهما بالحق في الدفاع عن نفسها ومصالحها».
وبينما تحدث مع أصدقائه الفلسطينيين بكل صراحة، لم ينسَ رودنسون أبداً في أي جانب يكمن رجحان القوة، والمسئولية استطراداً. ولقد شدد على أنه ليس في وسع «إسرائيل» أن تدير ظهرها لجيرانها وتزعم أنها جزء من أوروبا، كذلك ليس في مقدروها أن تؤجل إلى الأبد ساعة الحساب عن المظالم التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني. وإذا لم تواجه «إسرائيل» هذه الحقائق، فإن كل مزاميرها عن السلام سوف تظل جوفاء في سمع العالم العربي: «بدل أن تطالب، كما كان ديدنها طيلة 20 سنة، بأن يقبل العرب وجودها كأمر واقع، فإن في وسعها باسم الإنصاف أن تعرض التعويض عن الظلم الذي ارتبكته... الدولة اليهودية لم تعد حلماً بني على أسطورة عمرها 2000 سنة».
(...) ومثل رودنسون انزعج جاك دريدا كثيراً مما أسماه «السياسات الانتحارية الكارثية لـ (إسرائيل)، ولبعض أوساط الصهيونية». هذا الإحساس بالعذاب، بأن المرء في حال من الخصام مع العديد من أبناء جلدته اليهود، وأن من الصعب أن تستخدم مفردة الـ «نحن»، ولكن «على رغم كل هذا وكل المشكلات التي أواجها مع يهوديتي، فإنني لن أتخلى عنها أبداً... هذا الـ (نحن) المعذبة تكمن في صلب كل ما هو مثير للقلق في فكري»، تابع دريدا يقول.
وعلى خلاف رودنسون، جاء دريدا من العالم المسلم، من بلدة البيار في الجزائر الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي. وسيكتب لاحقاً أن الكاتب اليهودي. المصري إدموند جاييس يعلمنا «أن الجذور تنطق، وأن للكلمات رغبة النمو، وأن الخطاب الشعري يتجذر في الجرح». وخطاب دريدا الشعري انبثق من هزة نفيه من الجزائر، التي غادرها إلى باريس وهو في سن 19 سنة ليلتحق بالمدرسة العالية. والرابطة بين عمل المؤلف وسيرته معقدة لا ريب، وهي متعرجة شائكة، ودريدا ابتعد فترة طويلة عن الخوض في حياته الشخصية، أو حتى التقاط صورة فوتوغرافية له. ولكن في السنوات الأخيرة أخذ يتحدث عن طفولته الجزائرية، وعن كونه يهودياً في مجتمع استعماري، معترفاً أن «حياتي ورغباتي محفورة جمعيها في كتاباتي».
هو ابن بائع جوال، ولد سنة 1930 باسم جاكي دريدا (وتبنى في ما بعد الأصل الفرنسي «الصحيح» من اسمه الأول). كانت الأسرة من يهود السفارديم الإسبان الذين فروا إلى الجزائر أثناء محاكم التفتيش. وفي كتاباته أعرب دريدا عن ألفة خاصة مع شخصية مراند، وهو يهودي عاش في القرن الرابع عشر ومارس ديانته سراً. والأسرة لم تكن في عداد الأوروبيين المستوطنين ولا أهل البلد المسلمين، ولهذا فإنها كانت في حالة وسيطة تثير الشكوك على الجانبين. ومحنة يهود الجزائر، الذين بلغت أعدادهم 100 ألف في منتصف القرن العشرين، ازدادت تعقيداً مع صدور «مرسوم كريميو» لسنة 1870، والذي منحهم الجنسية الفرنسية، وأثار سخطاً شديداً في أوساط المستوطنين المتشددين المعادين للسامية، كما زرع إسفيناً بين الجزائريين اليهود والغالبية المسلمة التي عاشوا بسلام في كنفها طيلة قرون.
وقال دريدا في حوار حديث العهد: «لقد شاركت في تحويل مذهل لليهودية الفرنسية في الجزائر. أجدادي الأوائل كانوا شديدي القرب من العرب عن طريق أواصر اللغة والعادات وما إليها. وبعد مرسوم كريميو بات الجيل الثاني برجوازياً. وجدتي، رغم أنها تزوجت سرّاً في الباحة الخلفية لدار عمدة الجزائر بسبب اضطرابات قضية دريفوس، ربت بناتها وكأنهن برجوازيات من باريس، وعلى طراز السلوك الرفيع لأهل الحي السادس عشر». وحين ولد دريدا كانت الأسرة لا تتكلم اللهجة الإسبانية. عبرية ولا العربية، بل الفرنسية وحدها، إذ تمثلت لغة المستعمرين بشغف بالغ». هذا، كما يقول، هو «السبب في أن كتاباتي تنطوي على طريقة عنيفة، لكي لا أقول منحرفة، في التعامل مع اللغة. وبسبب الحب ليس ليس لدي سوى لغة واحدة، وفي الآن ذاته لا تمت إلى هذه اللغة بصلة».
وبلغ إحياء اليهودية الجزائرية نهاية مفاجئة سنة 1940 مع صعود حكومة فيشي، التي سرعان ما ألغت مرسوم كريميو بضغط من المستوطنين المعادين للسامية، وخلال سنة وجد دريدا نفسه مطروداً من المدرسة. «الثقافة الفرنسية ليست مخصصة لليهود الصغار»، قال له أستاذه. وهكذا، وبعد أن نبذتهم الجالية الأوروبية، تلقى آل دريدا الغوث من الجيران المسلمين الذين، على نقيض من الشعوب التي خضعت للاستعمار، رفضوا التحالف مع المحور ضد مستعمريهم. ولم ينسَ دريدا هذه التجربة، التي أعطته منظوراً أوسع إحاطة بالفوارق وأقل جبرية فيما يخص العلاقات العربية. اليهودية، أكثر مما كانت عليه حال الكثير من أبناء ديانته في فرنسا. (...).
بعد انتشار الحلفاء في الجزائر تابع دريدا دراسته، وجرى العمل من جديد برسوم كريميو. غير أن الحياة في الجزائر الفرنسية لم تعد كما كانت. مسلمو الجزائر، وبعد أن أسهموا في هزيمة الفاشية كجنود في قوات فرنسا الحرة بقيادة دوغول، أخذوا يتمردون ضد الاحتلال الفرنسي لبلادهم، والصدامات الأولى وقعت سنة 1945، حين مات عشرات الأوروبيين في مظاهرات مؤيدة للاستقلال. وبمعونة المستوطنين المتطرفين أقدم الجيش الفرنسي على ذبح عشرات الآلاف من المسلمين في بلدات سطيف وغيلما، وتلك كانت «أولى الانفجارات الجدية التي ستنذر بحرب الجزائر» التي اندلعت بعد تسع سنوات، كما يتذكر دريدا. وبعد مجازر 1945 انقلبت السياسة الجزائرية إلى صراع بقاء أو فناء بين المستوطنين وأهل البلد. وهو ما اختار له دريدا تسمية شهيرة: «التعارض الشطري».
أين كان الموقع الأفضل الذي يمكن أن ينضوي فيه يهود من أمثال دريدا؟ لقد استفادوا، في نهاية الأمر من سياسة الدمج، لا لشيء إلا لكي يخونهم سكان الجزائر الفرنسيون. وعلى رغم أنهم كانوا من أهل البلد، وليسوا في عداد المستوطنين، فإنهم في الآن ذاته لم يكونوا مسلمين وتوجب أن يتماهوا أكثر مع النزعة الجمهورية الفرنسية. وبمعزل عن مجموعة قليلة من اليهود الجزائريين الراديكاليين الذين التحقوا بصفوف جبهة التحرير، اصطف معظم اليهود مع الجالية الأوروبية أو تبنوا موقفاً مستحيلاً من الحياد. وحين حازت الجزائر على استقلالها سنة 1962، انضمت أسرة دريدا إلى أفواج الخروج الجماعي إلى فرنسا، الذي استقر عليه يهود الجزائر. (...
إقرأ أيضا لـ "آدم شاتز"العدد 3258 - الإثنين 08 أغسطس 2011م الموافق 08 رمضان 1432هـ