فيما يتعلق بوعد بلفور منذ اطلاقه على لسان بلفور وحتى اللحظة المعاشة، التي تبرز الكثير من المؤشرات الدالة على قرب نهايته وقبره، هذا إذا ما أحسن حكام العالم استعدادهم الصادق لحفر القبر، إذ إنه لا يختلف اثنان على غاياته المعلنة بأنه مشروع يهدف إلى إقامة دولة يهودية (عرقية ثيوقراطية) على أرض فلسطين، تحت مختلف المبررات التمويهية المضللة، والذرائع والأكاذيب الملفقة، التي لا يثبت لها ظل من الصحة على أرضية الواقع ومع معطيات التاريخ، مثل تلك التي اطلقتها الدعايات الصهيونية للتضليل على واقع فلسطين المعاش لتهيئ الظروف الدولية لتقبل احتلالها كحق مموه عليه بالباطل المكشوف بأنها «أرض الميعاد».
راجع الردود المعارضة والنافية لهذا الطرح - في كتاب «روجيه جارودي» - (الاساطير عليها زعيم الصهيونية «حاييم وايزمن»، أنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وتساهم جولدامائير بدورها، فتضيف إلى قائمة الأكاذيب الصهيونية، قولها: «ليس هناك شعب فلسطيني... وليس الأمر كما لو أننا جئنا لنطردهم من ديارهم، والاستيلاء على بلادهم. إنهم لا وجود لهم». ويمكن للقارئ أن يطلع على مختلف الردود المناهضة للطرحين الأخيرين... طرح وايزمن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وطرح جولدا مائير: «ليس هناك شعب فلسطيني... كما لو أننا جئنا لنطردهم من ديارهم...» (ص : ).
إلا أن هذه الإحالة لا تمنعنا من طرح السؤال الآتي على جولدامائير... إذا صح ما تدعيه: «ليس هناك شعب فلسطيني... وانهم لا وجود لهم» فلماذا تم تقسيم فلسطين العام ؟ وبين من ومن تم التقسيم؟
إنه يكفيكم أيها الصهاينة هذرا، وقد آنت اللحظة التي تزدردون فيها ريقكم، وتقبرون ألسنتكم الكذوبة في أفواهكم، وتعترفون بالهزيمة. وبمبالغاتكم في وعودكم للمجتمع الدولي بأنكم ستجعلون من فلسطين «أرض اللبن والعسل»، بينما الذي جعلتموه من أرض فلسطين أرض الرسالات، أرض السلام... جعلتم منها أرض «الدموع والدماء»، وإنه يمكن أن تكون حياتكم أكثر نكدا، لولا خيانة بعض حكام دول عربية استسلمت للإملاءات الأميركية، فمنعت مواطنيها من شرف مشاركة اخوانهم الفلسطينيين حرب التحرير الوطني تحت راية وحدة القومية العربية.
عند هذا المنعطف المفصلي، تفرض المتطلبات البحثية محاكاة النتائج الفاصلة المتعلقة بوعد بلفور في توجهاته الظاهرة كمشروع يهدف لخلق دولة يهودية، وبين اقامة ركيزة من تجمع يهودي قوي يمثل حارس مرمى يحمي المصالح الرأسمالية الغربية، والمصالح الامبريالية الأميركية، أن نقترب اقترابا عمليا ملاصقا بدل مناجاته عن بعد، لندرك حقيقة وعد بلفور وكشف أهدافه، لابد من الرجوع لحوادث التاريخ، لنستخلص منها الحقائق، وفي ضوئها يضيع عالمنا العربي الرد لأنه مازال هناك متسع من الوقت في ظل تحولات دولية.
في هذا المنعطف يواجهنا أول ما يواجهنا في خضم حوادث التاريخ ما سجلته لنا غريس هالل في كتابها «يد الله» ما تنبئنا به بالتفصيل الآتي:
«وفي الوقت الذي يتحدث فيه القدريون عن حبهم لـ «إسرائيل» فإنهم لا يخفون مشاعر عدم حبهم لليهود... ويبدو ان رجل الخير البريطاني اللورد شافتبري ( - )، وهو من أوائل القدريين نموذجيا في هذا الشأن، وكان يعرف بالإصلاحي الكبير»، وتضيف هالل مستطردة، «وذلك بسبب مبادرته إلى توفير معاملة إنسانية أفضل للأطفال العاملين، وللمعوقين عقليا، وللسجناء» وتستطرد في شرحها أنه، وجد أن الخطة الإلهية بشأن العودة الثانية للمسيح تعطي اليهود دورا اساسيا، وكما فسر النصوص المقدسة فإن العودة الثانية لا تتحقق إلا إذا كان اليهود يعيشون في «إسرائيل» المسترجعة، وهو تفسير لم ولن يتحقق لأنه يتقاطع مع ايمان اليهود في ان تشتتهم في انحاء العالم يحقق لهم مصلحتهم العليا ويمكنهم من الاستيلاء على ثروات العالم، وبالتالي بسط نفوذهم الاقتصادي على العالم، ويعزز هذا التوجه اليهودي الصهيوني ما صرح به موشي ديان في خطاب وجهه إلى المتمولين اليهود في لقاء معه بعد هزيمة . «يحثهم فيه على مواصلة العطاء والتبرع لنتمكن - بحسب قوله - من الاستيلاء على كامل المنطقة التي تتحكم في ممراة تزويد العالم بالنفط، وفي تنقل حركة التجارة العالمية، لنصبح حكام العالم وشعب الله المختار». (راجع مذكرات وايزمن).
ومع مواصلة ما تسجله لنا غريس، وتوفره من مراجع تسهم في تثبيت معلومات دراستنا هذه تقول: «ويشير استاذ علوم الدين والكاهن المشيخي دونالد واجنر إلى أن شافتبري شدد على ان اليهود ضروريون لأمل الخلاص عند المسيحيين». إضافة إلى ذلك وجد (وهنا مربط الفرس) أن إقامة نقطة ارتكاز يهودية قوية في فلسطين، وليست دولة يهودية بموجب ما تخطط لها الصهيونية السياسية، ارتكازا على ما تعلن عنه وتتباه به الرأسمالية اليهودية: «اننا ملوك الذهب بلا منازع، تحت سيطرة بريطانية تمكن بريطانيا من التفوق على فرنسا والهيمنة على الشرق الأدنى... وتفتح اسواقا كبيرة امام مصالحها الاقتصادية». (المصدر نفسه ص )
وعليه فإنه يمكن اعتبار هذه المعطيات التاريخية بمثابة أول خطوة تؤسس من حيث المبدأ لاثبات ان مشروع «بلفور لا يهدف في باطنه السياسي التكتيكي إلى خلق دولة يهودية، بقدر ما يهدف إلى تعيين حارس مرمى لحراسة وخدمة المصالح الاقتصادية للرأسمال الاستعماري البريطاني والامبريالي الأميركي... وان هذا الحارس يمكن هزيمته وتسجيل الكثير من الأهداف في مرماه، لو أحسن حكام العالم العربي اللعبة دونما حاجة إلى أية مواجهة عسكرية، ما سيضطر فريقه للتخلص منه وتغيير التكتيك، والتخلي عن كل المبررات العقائدية المبنية على كومة من النبوءات المبنية بدورها على قراءة حرفية جامدة لظواهر معاني الكتاب المقدس.
وتأسيسا على ما سلف، إذا ما اخذنا في الاعتبار، الأهداف المتضاربة والمتصارعة، والكامنة في مخطط كل من الطرفين اليهودي والمسيحي، في ظل هذا الصراع، سنرى تساقط كل المبررات العقائدية بشأن «إسرائيل»، وسيتضح بصورة قاطعة، أن كلا الطرفين في ضوء معطيات التاريخ يكمن للآخر، لأنه لا يمكن لا لبريطانيا ولا لأميركا، ان يسمحا بقيام دولة امبراطورية يهودية تحكم العالم، وتضع دول العالم تحت جناحيها.
وهذا ما سيكون موضع بحثنا في حلقة أخرى، وعليه سنلتقي مع قارئنا الكريم على صفحات صحيفتنا الغراء «الوسط» في الحلقة القادمة
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 1393 - الخميس 29 يونيو 2006م الموافق 02 جمادى الآخرة 1427هـ