هناك إشكالية كبرى تعتبر مظهراً من مظاهر قيام الهوة بين الإنسان ومحيطه ومعتقده أحياناً، تبرز في ظاهرة الدعوة إلى فكر ما، أي فكر، فكثيراً ما يشهد المرء ظواهر متعددة، ورؤى مختلفة تدفعه إلى الاعتقاد بأن ما جاءت به الرسالات أو ما أنتجه الفكر الإنساني تلخصه مسيرة فئة معينة من الذين يحملون هذه الرسالات أو هذا الفكر ليشكلوا في مسيرة التاريخ نماذج تحتذى وأمثلة عليا تستلهم أو تأخذ بعد القدسية والريادة والتي تحث الاخرين على الالتزام بنهجها، والتقيد بتعاليمها في شتى المجالات الحياتية. وانطلاقاً من هذه الظاهرة قد يطرح البعض إشكالية، ملخصها: لماذا يركز علماء الدين على المشكلات الأخلاقية بعيداً عن المشكلات الاجتماعية؟ وهنا يبرز أمامنا السؤال الآتي: هل المشكلات الأخلاقية بعيدة عن المشكلات الاجتماعية حتى تكون إثارتها ومحاولة معالجتها من القضايا التي يمكن تأجيلها إلى ما بعد الفراغ من حل المشكلات الاجتماعية التي تواجه المجتمع في حياته العامة؟
ولنا أن نجيب عن ذلك بتحديد معنى الأخلاق في حياة الإنسان للنظر هل هي في الهامش من حياتنا حتى لتضيق فتحصر في زاوية معزولة من زوايا الحياة، أو أنها تتسع لتشمل كل مجالات الحياة بما فيها المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري.
إن الأخلاق في المفهوم الإسلامي تمثل أحد الأهداف الكبرى التي انطلقت الرسالة الإسلامية كلها لإتمام حركتها، وقد قال الرسول الأكرم (ص): «إنما بعثت لاتمام مكارم الأخلاق». وإذا كانت كلمة الأخلاق تنطلق من طبيعة السلوك الإنساني الفردي أو الاجتماعي تجاه النفس وتجاه الاخرين ونوعية ممارساتنا لعلاقاتنا العامة والخاصة بالناس وبالوطن وبالحياة عموماً... وبالتالي هي مجموعة القواعد السلوكية التي تتبعها جماعة من الناس في حقبة ما من الحقب التاريخية، كما يعرفها بعض علماء الاجتماع... فإن المسألة تغدو في صلب عمل وحركة الرسالات التي انطلقت لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وفي ضوء هذا، فإننا ننظر إلى المسألة الأخلاقية في جانبها الشمولي، إذ يتسع هذا المفهوم لكل مظاهر السلوك الإنساني في حالي الحرب والسلم وفي الحكم والسياسة والاقتصاد، فعندما نقول: إن الخيانة عمل غير أخلاقي فإن للخيانة مفهوماً يمتد إلى كل حالات الإنسان، ابتداءً من خيانة الإنسان العلاقة الزوجية أو خيانة الحاكم لشعبه أو وطنه، أو خيانة القائد العسكري لأمته، أو خيانة الشعب لمصالحه ومبادئه وقضاياه الكبرى، أو خيانة الشخص لقضاياه وبلاده وكيانه، فهل يكون الحديث عنه حديثاً عن مشكلة أخلاقية بعيدة عن المشكلات الاجتماعية؟! إننا نعتقد بأن الدفاع عن قضايا الناس في مواجهة الحكم الفاسد، وفي مواجهة كل الذين يعتدون على أموال الأمة بالسرقة أو الهدر، أو الذين يلاحقون أصحاب الوعود المعسولة التي يخدر بها الحاكم الجماهير للاعتداء على حقوقها ولحرمانها من حريتها وثرواتها... إن ملاحقة هذه الأمور تمثل عملاً عبادياً وأخلاقياً، ولا تتسم من الزاوية الإسلامية بالمشروعية السياسية فحسب، بل هي أساس من أسس الدين وهدف من أهدافه السامية التي تحركوا لأجلها في حياة الناس لإقامة العدل وإسقاط كل مظاهر الظلم...
ولذلك، فنحن نعتبر أن قيمة المعالجات الدينية - التي يمارسها العلماء المخلصون أو الطليعة الواعية في الأمة لهذه القضايا - تكمن في محاولتهم تركيزها في أعماق الإنسان وأفكاره كأسلوب عملي من أساليب حماية حقوق الإنسان. وكذلك بناء الإنسان من الداخل لينعكس ذلك كله على حياته العملية... وقد شاهدنا من خلال الواقع الديني التاريخي والمعاصر كثيراً من اللمحات الرائعة التي وقف فيها الرجال والنساء مواقف الحق والبطولة أمام كل الإغراءات التي حاولت أن تحرفهم عن مسيرتهم في مواجهة الظلم وإحقاق الحق، وقد صمد هؤلاء ولم يسقطوا في التجربة، بل نجحوا في الحفاظ على ما يحملون من مبادئ وقيم وعلى ما يقدرون من مسئوليات وواجبات، لأن الأخلاقيات الدينية استطاعت أن تهيئ لهم البناء الداخلي القوي والمتماسك الذي لا يسقط أمام الهزاهز والرياح العاتية.
ونحن عندما نؤكد هذا الجانب لا نريد الحكم على صحة كل المعالجات الدينية بأساليبها المختلفة للمشكلات الأخلاقية، فقد تمثل بعض الأساليب تخلفاً في عرض الفكرة، إذ تنطلق من الجانب التجريدي أكثر مما تنطلق من قراءة دقيقة للواقع، وتنحصر في نطاق ضيق من أعمال الإنسان الفردية التي لا تتعدى نطاق حياته الخاصة، الأمر الذي يؤدي إلى عزل هذا الإنسان بمفاهيمه الأخلاقية عن الحياة العامة وبالتالي عزل المفاهيم الأخلاقية عن الحياة. إننا نشجب مثل هذه الأساليب لأنها تجمد الفكرة بدلاً من أن تطلقها وتحركها، وربما تكون هذه الأساليب مسئولة عن الفكرة السوداوية التي يحملها البعض عن الدين، وفيما هي الهوة بين النظرية والتطبيق. ولذلك كنا نؤكد على العاملين في نطاق المشروع الإسلامي أو أي مشروع تغييري أن يكونوا معاصرين في رصدهم للمشكلة ومحاولة إيجاد الحلول الواقعية لها، وأن يعيشوا نبض العصر في حركتهم الثقافية والسياسية والعلمية، لا أن يتحركوا في العناوين التجريدية أو أن يلتقطوا بعض الكلمات والعناوين من التراث ثم يسقطوها على الواقع من دون فهم لأبعادها أو من دون دراسة لواقعهم.
إننا في لبنان كما في الكثير من بلداننا العربية والإسلامية نعاني من مشكلة كبرى فيما هي الأخلاقية السياسية وفيما هي الصدقية السياسية، إلى المستوى الذي يستطيع فيه المسئول أن يتحلل من التزاماته الوطنية أو من مسئولياته على مستوى الممارسة السياسية، من دون أن يخشى الملاحقة الشعبية أو القانونية. ولذلك تحولت السياسة عندنا إلى لعبة مقامرة ومغامرة غالباً ما يدفع الوطن ثمنها وتدفع الأمة أثماناً باهظةً جراء هذا السقوط الداخلي الذي ينعكس وهناً أمام الآخرين.
إننا نستمع إلى حديث هنا وحديث هناك عن عدم استعداء الآخرين، ولكن ماذا عن استعدائنا لبلدنا وأرضنا وأمتنا؟ لماذا لا ينطلق الصوت في أن علينا أن ننسجم مع قضايانا فيما هي مسألة التحرر من الآخرين، وخصوصاً «إسرائيل» ومن يعمل لحسابها من دول الوصاية التي يراد لنا أن نستمع لوصاياها على حساب قضيتنا الأم وعلى حساب استقلالنا الحقيقي وحرياتنا وعزتنا وكرامتنا؟ إن علينا أن نعود إلى شيء من الصدقية فيما هي القيم التي يمثلها الإسلام وتمثلها المسيحية في عمقها الإنساني والقيمي، وأن ننسجم مع الأخلاقية السياسية التي من المفترض أن تحكم تصرفاتنا ومواقفنا لحساب حرية الوطن ووحدته الداخلية وصلابته في مواجهة «إسرائيل» وكل الطامعين والطامحين للإيقاع بين اللبنانيين وتمزيق وحدتهم وإسقاط كيانهم السياسي والوطني
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1393 - الخميس 29 يونيو 2006م الموافق 02 جمادى الآخرة 1427هـ