العدد 1393 - الخميس 29 يونيو 2006م الموافق 02 جمادى الآخرة 1427هـ

الطهطاوي يقرأ فلاسفة الأنوار ويشهد عصر التحولات

رحلة الشيخ إلى باريس

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قعد الشيخ الطهطاوي في باريس خمس سنوات قام خلالها وبحسب كلامه بتخليص الابريز. فهذا الذهب الخالص الذي عاد به إلى القاهرة كان نتاج انتباه ودهشة وملاحظة ومراقبة، ولكنه لم يكن كافياً لفهم الأسباب والعلل التي أدت إلى رقي الفرنجة. فكل ما جمعه الطهطاوي في رحلته اقتصر على التوصيفات والمفاضلات وتبيان الفوارق في العادات والتقاليد والمقارنة بين سلبيات الحضارة وإيجابياتها.

وبسبب اقتصار القراءة على المشاهدات ومفارقاتها وقع الشيخ في استطرادات وخرج كثيراً على الموضوعات التي أراد معالجتها. فالدهشة كانت الغالبة في الرؤية ولذلك طغت على تفكيره ومنعته من فهم العوامل الموضوعية لأسس التقدم. فالتقدم كما رآه أعاده إلى عوامل ذاتية فقط تتعلق بالأشخاص وموقع الناس في التعامل مع الأشياء. فهو مثلاً يفرد الصفحات للتحدث عن الشوارع والمقاهي والحانات والمكتبات والأسواق التجارية واللباس والعادات والتقاليد وشرب الشاي والأواني والنظافة والنساء والرجال والعلم والقراءة والأوبرا والشعر والموسيقى والمتاحف والكنائس والقسس (رجال الدين) والكاثوليكية و«قلة التدين» وغيرها من سلبيات وإيجابيات، وتلك التي أطلق عليها «الصنائع الدنيئة» و«الكفر بالنعم». وأكثر ما أزعجه في باريس هو أن الرجال «عبيد النساء».

إلا أن رحلة الطهطاوي لم تقتصر على المشاهدات. فهو أرسل أصلاً إماماً على رأس بعثة علمية، لذلك كان له حظ الحصول على معرفة دراسية أهّلته لاحقاً لاحتلال مواقع مهمة في دولة محمد علي بعد عودته إلى مصر. فالشيخ الطامح إلى التقدم استغل فرصة وجوده وبدأ فوراً بتعلم اللغة الفرنسية وهذا ما أسعفه لاحقاً على قراءة الصحف اليومية ومطالعة الكتب التي أقدم على ترجمة بعضها إلى العربية. ويذكر الطهطاوي في كتابه بعض أسماء الأعلام الذين اطلع على دراساتهم وأبحاثهم. فهو مثلاً قرأ كتب السير التي تتحدث عن «فلاسفة اليونان» وبطرس الأكبر (مؤسس روسيا الحديثة) ونابليون وتواريخ الحضارات القديمة (مصر والشام والعراق والعجم والهنود واليونان والرومان). كذلك اطلع على كتب تعطي فكرة عن الجغرافيا والطبيعة والمناخ والمعادن. كذلك اطلع على منطق أرسطو ودواوين الشعراء والأدباء (فولتير وراسين). وقرأ أيضاً كتابات مونتسكيو (روح الشرائع) وروسو (العقد الاجتماعي). وقرأ أيضاً عن فنون الهندسة والصناعة والحروب. ولم يقتصر نشاط الطهطاوي على الاطلاع ومراسلة بعض رجال الدولة في فرنسا وإنما اجتهد في ترجمة الكثير من النصوص وتعريب مؤلفات وجد فيها فائدة في نقلها إلى العربية. فهو مثلاً قام بتعريب «قانون التجارة» و«القانون المدني الفرنسي» و«الجغرافيا العامة» و«رسالة المعادن» و«مبادئ الهندسة» وكتاب «المنطق» وسير «قدماء الفلاسفة».

اجتهد الطهطاوي كثيراً في باريس. فهو انكب على القراءة والترجمة والنقل والاقتباس والانتقاء إلى درجة لفت نشاطه المتميز أنظار رجال الدولة فبعثوا إليه رسائل يشجعونه على الاستمرار في تعريب القاموس الفرنسي ونقل تلك العلوم والمعارف إلى العربية. فهؤلاء كانوا يدركون المدى الذي ستؤديه تلك الترجمات وما ستتركه من تأثيرات على «النخب» التي أخذت تتشكل في دائرة دولة محمد علي. الطهطاوي لم ينتبه لتلك الملاحظات التشجيعية ولكنه كان يدرك أهمية عمله لذلك اختار الكتب النافعة للترجمة وتحديداً تلك التي كان يرى فيها فائدة للدولة (العمران، الهندسة، المهن، الحروب، الجغرافيا وغيرها). كذلك اختار بعض النصوص المتصلة بالدستور والشورى والإدارة وتنظيم الدولة وتراتبيتها وهياكلها.

هذا النشاط التراكمي الذي بذله الطهطاوي أسعفه لاحقاً في تولي مواقع مهمة في دولة الباشا إلا أنه لم يسعف الدولة في تجاوز مأزقها التاريخي وتأسيس نوع من الاستقلال السياسي/ الاقتصادي عن هيمنة أوروبا. فالتطور الذي فهمه الطهطاوي اقتصر على التقليد والمحاكاة والاحتكاك والتقارب وأخذ المفيد وترك «الكفر» و«الرذيلة». إلا أن التطور أكثر من ذاك الاقتباس والانتقاء والنقل فهو أساساً يتصل بشروط العمران ووظيفة المعرفة وموقع الأمة في التاريخ ومكانتها في قيادة التحول.

هذا الاختلاف لم يدركه الطهطاوي آنذاك. فهو اعتقد أن المسألة سهلة وأنه عن طريق النقل يمكن الانتقال من حال إلى أخرى. وهذا لم يحصل إلا قليلاً وبحدود نسبية. والسبب يعود أساساً إلى نمو تلك الفجوة الزمنية بين أوروبا والعالم الإسلامي. فالنقل والترجمة والاقتباس واستلهام المعارف والنماذج ليس جديداً على الأمة. فهي أقدمت على مثل هذا النشاط بدءاً من النصف الثاني من القرن الهجري الأول واستمرت به إلى القرن الهجري الثالث. وخلال فترة القرون الثلاثة الأولى نجحت النخبة الإسلامية في استيعاب وتطوير تلك المنقولات وصولاً إلى نقض وتجاوز الفلسفة الإغريقية (سقراط، أفلاطون، أرسطو، أفلوطين) وغيرها من مدارس بيزنطية وفارسية وهندية. آنذاك كانت الأمة تمرّ بمرحلة نهوض وصعود ولم تكن خائفة على الحضارة والتاريخ لأنها كانت تقود العالم نحو المستقبل.

الأمر اختلف في حياة الطهطاوي. فهذا الشيخ اتّبع سلوك السلف واجتهد في ترجمة فولتير ومونتسكيو وروسو. ولكن الأمة كانت تمر بمرحلة ضعف وهبوط وكانت نخبتها خائفة على هويتها من اجتياحات أوروبية أخذت تطرق أبوابها من إندونيسيا والهند إلى أوروبا الشرقية، ومن الخليج إلى المحيط ومن المشرق إلى المغرب.

وبسبب اختلاف اللحظة التاريخية بين صعود وهبوط تغيّر إيقاع الترجمات والاقتباسات والنقل والمحاكاة وغيرها من محاولات جادة، ولكنها كلها كانت تذهب أدراج الرياح في لحظات الاصطدام والتصادم.

المسألة إذاً اختلفت في مكانها وزمانها. والجهد الذي بذله الطهطاوي خلال فترة قعوده في باريس كانت فائدته محدودة لأن الوقت تكفل في الحد من إيجابيات الاستيعاب والتجاوز والنقض وتعطيل إمكانات البحث عن وسائل مستقلة خارج مظلة الهيمنة.

خلال وجوده وصلت الكثير من الأخبار السيئة عن الأمة. والطهطاوي ذكرها في كتابه. فهو يتحدث عن غزو فرنسا للجزائر ويصف كيف أن الفرنساوية «تلقوا هذا الخبر من غير حماسة، وإن أظهروا الفرح والسرور به». إلا أن الطهطاوي يعود ويسخر من ملك فرنسا الذي اتخذ قرار الغزو لإسكات الناس إلا أنه تعرض إلى ثورة التي أخرجته من مملكته. فشر هذا بخير ذاك. ولكن ما لم يلحظه الطهطاوي أن ملك فرنسا خرج من ملكه واستمرت الجزائر مُستعمَرة فرنسية تعاني الدمار والاقتلاع من ورثة الغزاة.

قراءة الطهطاوي كانت محكومة آنذاك بشروط الكتابة. فهو على رغم ملامسته الحوادث وملاحظاته وانتباهه للمفارقات لم ينجح في تجاوز اللحظة الزمنية والابتعاد بها قليلاً إلى الجغرافيا والتاريخ. فالغزو الفرنسي للجزائر نظر إليه وكأنه مجرد خطأ ارتكبه هذا الملك. والثورة التي عصفت بفرنسا خلال فترة وجوده في باريس كتب عنها كثيراً ووصفها وحدّد أسباب اندلاعها والنتائج التي توصلت إليها ولكنه لم يستخرج منها سوى نقاط محددة لا ترتقي إلى مستوى التحليل والتركيب والتفكيك. فكل كتاباته لم تنجح في تعدي مرحلة الوصف والتوصيف والسرد وشرح بعض نصوص الدستور وترجمة بعض المواد عن برنامج الثورة التي شاهدها أو عن مشروعها الإصلاحي الذي ترجم بنوده، مضافة إليها تلك الفقرات المأخوذة من «روح الشرائع» لمونتسكيو.

حتى حين يتحدث الطهطاوي عن التيارات السياسية الثلاثة في فرنسا (الملكية المطلقة، الملكية المقيّدة (الدستورية) أو الجمهورية) كان يكتفي بالسرد من دول تحليل أو تحديد موقف وتصوره الخاص للنموذج الذي يتمناه أو يرى أنه يناسب مصر في عهد دولة الباشا. هناك فقط إشارات سريعة عن الحرية والشورى والدستور والعدالة والضريبة وهيكلية الدولة وكيفية مسارها وفق علاقات منظمة. فالشيخ أكثر ما أثاره مسألة الدولة وهذه نقطة مهمة في وعي شروط التقدم في العصر الحديث. إلا أنه اكتفى بشرح وتوصيف عمل إداراتها وفق القانون ولم يتقدم إلى الأمام لتحديد الشروط الموضوعية لتقدم المجتمع ونوعية الدولة التي يريدها أساساً لقيادة التطوير والتحديث.

الطهطاوي في هذا المعنى يشكل نموذجاً أولياً على خط عام ستسير عليه «النخب العربية» لاحقاً في توهماتها الأيديولوجية وثقافاتها الارتحالية. فهذا النقص في وعي أسس التقدم التاريخي بين كتلة حضارية نجحت في ربط المعرفة بتطور العمران وكتلة حضارية وجدت نفسها في سياق تنافس انعدمت الشروط الموضوعية لتحقيقه سيستمر إلى سنوات وعقود. فالمسألة ليست ذاتية تعتمد على وهم الاقتباس والانتقاء والنقل والتسويق وإنما تتصل بشروط أخرى لها علاقة بتوازن القوة والتفوق العمراني والانتشار الجغرافي وتأسيس معرفة حديثة تعتمد الآلة لا الفكر في الرد على الحاجات والسيطرة على متطلبات الواقع والمستقبل.

نموذج الطهطاوي يختصر الكثير من التحولات والمعادلات. فهذا الشيخ «التقدمي» الذي تعلم الفرنسية واطلع على كتابات فلاسفة الأنوار وفكر الثورة الجمهورية وقام بترجمة نصوص فولتير ومونتسكيو وروسو لم يدرك في وقته أن أوروبا تجاوزت تلك الأفكار وطوّرتها بما يتناسب مع شروط التقدم العمراني. فالطهطاوي لم يتابع الإضافات الألمانية على فكر التنوير ولم يدرك كتابات كانط وهيغل وكونت التي اتسمت بنسق هرمي عقلاني أكثر تنظيماً وهندسة من تلك الخطابات الثورية والحماسية التي سبقت الثورة الفرنسية ورافقتها. كذلك لم يتطلع الشيخ «التقدمي» على فلسفة التنوير البريطانية (الإنجليزية) التي اتسمت بالواقعية والنفعية والتفكير الاجتماعي والابتعاد عن الفوضوية. كذلك وهذه نقطة مهمة أن الشيخ لم يلحظ ذاك الاختلاف المنهجي والتعارض في التصورات بين فلاسفة الأنوار. روسو اختلف مع مونتسكيو. ولوك اختلف مع هوبس. وهيغل اختلف مع كانط. وكونت اختلف مع سان سيمون. وهذه الاختلافات تكشف عن تنوع في الاجتهادات. والتنوع يعني عملياً أن أوروبا لم تكن متفقة على منهج واحد وبالتالي اختلفت نماذجها بين دولة وأخرى. فالنموذج الجمهوري الفرنسي (التوريثي أحياناً) اختلف عن الن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1393 - الخميس 29 يونيو 2006م الموافق 02 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً