تلقيت دعوة كريمة من الأخ صلاح الشعباني، يدعوني فيها للحضور إلى مجلسه والالتقاء برواد المجلس الذين لا أعرف إن كنت قد التقيتهم سابقاً أم لا... على العموم أنا قبلت الدعوة، وسأكون موجوداً معهم في مساء يوم غدٍ (الجمعة) في المجلس الواقع على شارع البديع، وسأتناقش معهم في الموضوعات التي ستطرح... وإذا كان هناك شخص يريد (أو بوده) أن يتناقش معي في أي موضوع؛ فإنه بإمكانه الحضور إلى المجلس (بكل ممنونية) وبحسب ما صرح به صاحب الدعوة.
الناس في غالبيتهم... لدينا في البحرين... يحسبون ألف حساب ويتحسسون من النقاش مع شخص يبدأ اسمه بلقب (شيخ)، لأن الاسم في بدايته يرمز إلى عالم في الدين، وديننا الإسلامي هو دين سماوي لانقاش فيه، وإنما فقط توضيح للآيات... وهذا يذكرني بواقعة حصلت لي منذ خمسة عشر عاماً عندما تعرضت لحادث كبير (لا أريد شرح تفاصيله) ونقلت إلى مستشفى (برج لندن) في إنجلترا، وهذا المستشفى مملوك لشركة استثمار كويتية، لذلك فإن غالبية الموجودين فيه هم من المرضى الكويتيين الذين أرسلوا للعلاج بعد نهاية الغزو العراقي الغاشم لبلادهم.
ظللت في المستشفى فترة طويلة وأنا طريح الفراش، وكانت تعطى لي إبر مخدرة للآلام يومياً، يعني إبرة كل أربع ساعات... حتى أدمنت... أيام وليالي، وقبل أن يأتي موعد الإبرة القادمة بساعة كنت أحس بآلام تفوق الاحتمال، ولكني كنت أتناساها بواسطة قراءة القرآن من مصحف... كنت أقرأ حتى يحين موعد الإبرة، وأنا بطبعي أملك صوتاً جهورياً، لذلك كان العنبر الذي أنا فيه يهتز من صوتي خشوعاً أو إزعاجاً... لا أعلم... وكان اسمي المكتوب خارج باب الغرفة يبدأ بكلمة (شيخ).
بعض الاخوة الذين هم مرافقون للمرضى ظنوا بأني شيخ دين، وفي أحد الأيام جاءتني امرأة محجبة وهي تشكو والدموع تترقرق في عينيها... تقول المرأة إن الله رزقها بابن يشكو من شلل في الأمعاء، وهو الآن عمره ثلاثة أعوام ولكن بنيته ضعيفة وهزيل بسبب سوء التغذية وتراكم الطعام في أمعائه، وعندما أحضرته إلى المستشفى غرزوا إبرة كبيرة (وبطريقة مؤلمة جداً) في رقبة ابنها لإعطائه تغذية وإنقاذ حياته، والطفل الصغير يحاول أن ينزع هذه الإبرة المؤلمة ولكنها تراقبه وتمنعه، وفي ساعات النوم تضطر المسكينة إلى ربط أيدي صغيرها في السرير حتى تطمئن.
المهم في الموضوع أنه وبعد مرور أكثر من شهرين على هذه الحال، جاء الأطباء في الصباح الباكر ونزعوا إبرة الطعام (الكبيرة والمؤلمة) من رقبة الصغير، وأعطوا الأم قارورة كبيرة من حليب خاص (له رائحة كريهة) لكي يشربها الطفل وتخرج السموم التي في أمعائه... الأم المسكينة حاولت أن تسقي الطفل وهو يرفض ويبكي لأنه جائع ويريد أن يأكل، والأطباء منعوها من تقديم الأكل له، لأنه يعتبر سماً قاتلاً، والممرضات يلحون عليها ويهددونها بوضع الإبرة مرة ثانية إذا لم يشرب الطفل الحليب قبل الساعة الواحدة ظهراً، لأن في ذلك خطراً كبيراً على حياته، وهي لا تعلم ماذا تفعل. وجاءت إليّ تطلب مني أن أقرأ عليه وأطرد الجن حتى يشرب الحليب.
لم يكن أمامي سوى أن أستجيب لطلبها (ماذا يمكنني أن أعمل غير ذلك)... ذهبت وأحضرت ابنها المسكين وتركته عندي، أصلحت السرير الكهربائي وأجلست الطفل على حجري وفتحت المصحف وابتدأت القراءة منه... أنا أقرأ وهو ينظر إلى البسكويت الموجود بجانبي ويصرخ (نم نم)... أقرأ بصوت عالٍ وهو يصرخ (نم نم... نم نم)... الأكل يعتبر سماً ولكن لم يكن أحد معي في الغرفة، أوقفت القراءة وأعطيته كمية كبيرة من البسكويت والعصير فأكل وشرب حتى شبع... ثم نظفت وجهه وفمه، واتصلت هاتفياً بوالدته التي حضرت وأخذته وذهبت به إلى غرفته.
أنا نمت من التعب قليلاً فصحوتُ على رنين الهاتف... وكانت الأم هي المتصلة، إذ شكرتني (وهي تبكي) لأن قراءتي طردت الجن، وجعلت ابنها يخرج مافي أمعائه من أوساخ، وبعدها شرب الحليب
إقرأ أيضا لـ "سلمان بن صقر آل خليفة"العدد 1392 - الأربعاء 28 يونيو 2006م الموافق 01 جمادى الآخرة 1427هـ