اغتيال المحامي خميس العبيدي يتجاوز مجرد حادثة قتل إضافية في المشهد العراقي المدمى، ويمكن القول من دون أية مبالغة، أن هذا الاغتيال لا يقل عن أهمية اغتيال عزالدين سليم في مايو/ أيار على صعيد العراق أو رفيق الحريري في مايو على الصعيد الإقليمي. فنحن أمام حال تطبيع مع مفاهيم لا تنتج سوى العنف والدمار مثل التكفير والتخوين والعمالة للنظام البائد والإرهاب باعتبار هذه الكلمات أصبحت مبرراً للقتل خارج القضاء بقرار من أمير جماعة صغيرة أو ميليشيا منظمة بل وحتى مسئول جهاز أمني في وزارة الداخلية. وبهذا المعنى أصبح الإنسان السلعة الأرخص في سوق النخاسة السياسية في التجربة الأميركية للديمقراطية في العراق. فهذا هو المحامي الثالث الذي يسقط ضحية عملية اغتيال، وكان رئيس المحكمة رزكار أمين قد أبعد بطريقة لائقة، ولم تتوقف فضائح الشهود والضغوط والادعاء العام، في محكمة كانت قواعدها ولوائحها بالأساس نتيجة صفقة تجارية سياسية مع مكتب محاماة غير مختص بالقضايا الجنائية، نقطة الثقة فيه الولاء للإدارة الأميركية وطلباتها.
المشكلة الأساسية هي أننا منذ سبتمبر نعيش عولمة حال الطوارئ والقراءة الأميركية لهذه العولمة. وكون التراث الأميركي في الحروب تراثاً كان باستمرار على حساب الحقوق الأساسية ولم يكن في اتجاهها (كما هو الحال في جنوبي شرق آسيا ومحكمة طوكيو ونورنبرغ وقرارات محكمة العدل الدولية بخصوص نيكاراغوا... إلخ) فقد كنا متشائمين منذ اليوم الأول للاحتلال، خصوصاً مع إدارة يقودها بوش- شيني - رامسفيلد، غير قادرة على إبصار الديمقراطية واستقلال القضاء في العراق من دون رائحة المازوت. هل من الضروري التذكير بأن الولايات المتحدة منذ انتصارها في الحرب العالمية الثانية آثرت مبدأ المحاكم الاستثنائية لمحاكمة المهزومين على المحاكم الدولية أو العادية وأنها اليوم العدو الأول للمحكمة الجنائية الدولية؟
لكن محاكمة صدام حسين قضية أعقد بكثير، وهي تتطلب تناولا متعدد الميادين ينظر لها من الجانب القانوني والسياسي والنفسي والمجتمعي في آن. ويرتبط بنجاح المحاكمة فكرة قبول قيام محاكم على يد قوات الاحتلال في العرف الدولي، الأمر غير المقرّ به عرفاً ولا قانوناً. فالمادة من اتفاق جنيف الرابع يحظر على دولة الاحتلال أن تغير وضع الموظفين أو القضاة، فنسفت القوات الأميركية هذا المبدأ كله بضربها أركان الدولة كافة. المادة من الاتفاق نفسه تحظر أن يكون لأي قانون جزائي تفرضه دولة الاحتلال أثر رجعي فإذا بنا نحاكم رئيس الدولة على قصة تعود لأكثر من عقدين من الزمن بقوانين أعدت بإشراف بريمر. ونجد الطابع اللاقانوني الدولي واضحا في المواد إلى من اتفاق جنيف الرابع. إلا أن الطابع النسبي والاستثنائي لاحتلال العراق في ظل هيمنة قطب أحادي على مجلس الأمن، أعطى نوعاً من القبول النسبي بمحكمة استثنائية وخصوصاً عند أعضاء مجلس الأمن مقابل ضمانات الحد الأدنى الشكلية، كما قال قبل عام أحد مندوبي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. الأمر الذي لا يضفي الشرعية المرجعية لهذه المحكمة وإنما يعطيها ما يمكن تسميته محكمة أمر واقع )otcaf ed(. في هذه الظروف تشكل عملية الاعتداء على ثلاثة محامين بالقتل خطاً أحمر لكل رجل قانون يصبح تأييده لهذه المحاكمة على الأراضي العراقية مساً بنزاهته وموضوعيته أولاً وقبل كل شيء. فلو استعرضنا موقف مجلس الأمن مثلاً من قضية محاكمة صدام حسين وقتلة الحريري لوجدنا التالي:
مطالبة بمحاكمة دولية لقتلة الحريري على رغم عدم تصديق لبنان على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية وعدم وجود حرب أهلية أو اضطرابات يومية وفي ظل دولة مستقلة مستقرة نسبياً وآمنة عموماً سلطاتها منتخبة والقضاء فيها أكثر نزاهة منه في بلدان الجوار.
رفض محاكمة صدام خارج العراق المحتل فعلياً غير المستقر وغير الآمن الذي يعاد تفصيل السلطة القضائية فيه على مقاس الكارتل السياسي الممسك بزمام السلطة التنفيذية. كيف يمكن أن نثق والحال هذه بعدالة المحاكمة وهيمنة العنصر القضائي على العنصر السياسي وجعل إقامة العدل هماً أساسياً في الحالتين؟
طبعاً هذه الأسطر، ستحول كاتبها إلى عميل لصدام حسين، لذلك أريد أن أذكر أكثر من وزير ومسئول بالدور الذي لعبناه من أجل حماية كرامتهم وشخصيتهم القانونية في أوروبا يوم وقفت أوروبا مع صدام الذي وصفه الرئيس الفرنسي السابق ميتيران باليعقوبي (نسبة ليعاقبة الثورة الفرنسية) وكان الحصول على اللجوء السياسي لمعارض عراقي أصعب من النجاح في الانتخابات البرلمانية؟ للأسف عدة مواقع متطرفة للموالين للحكومة الحالية في بغداد تضع اليوم قوائم بعملاء صدام نجد فيها نخبة من خيرة الديمقراطيين العرب الذين تصدوا للدكتاتورية بالأمس وللاحتلال وأساليب وزارة الداخلية اليوم مع تهديدات مباشرة لهم. المشكلة اليوم، أن حال الضياع التي يعيشها الكارتل السياسي المحلي للاحتلال هي أيضاً ابنة الهزيمة الأخلاقية للإدارة الأميركية الحالية وما يمكن تسميته إعادة تنظيم الأوضاع الشرق أوسطية بعد فترة العربدة والتجبر التي قزمها الوحل العراقي والأفغاني ووضعتها مشاهد غوانتانامو وأبو غريب في مكانها الصحيح. لذلك سنشهد فترة تخبط من الضروري فيها استخدام القوة بشكل باثولوجي، ليس فقط من الإدارة الأميركية، بل ومن حكومتها في بغداد، كذلك من أقرب حلفائها في المنطقة (الدولة العبرية). لذلك لا نستغرب تخبط حكومة «إسرائيل» التي تمارس أبشع الجرائم بحق المواطنين العزل في غزة في ظل شعور عام أن القتل هو الوسيلة الوحيدة لاستمرار الهيمنة بعد فقدان البوصلة السياسية.
عشية الاحتلال، قال لي أحد المؤيدين له في بغداد أثناء بعثة تحقيق قمنا بها: «من يتحدث اليوم عن ألف حادثة اغتصاب للفتيات الأوروبيات الصغيرات اللاتي كن ضحية كبت عاشه الجنود الأميركان في أوروبا؟ الأساس كان تخليص أوروبا من النازية». للأسف، لم يفهم محدثي البريطاني الجنسية الفارق بين العراق وألمانيا، بين النازية كمشروع إمبريالي توسعي في ذاته ومن أجل ذاته والصدامية كمشروع مواجهة بالوكالة بسلاح وأموال الغير ودماء العراقيين والإيرانيين؟ بين أبناء ثقافة غربية ديمقراطية يحاربون أبناء ثقافة أوروبية دكتاتورية، وبين النظرة التي لم تمت لفكرة الاستعمار المباشر وغير المباشر، لفكرة تفوق على حضارة وشعب نحت مكانه في التاريخ، التعامل الذي جرى مع أوربة ماريشال وأوروبا الشرقية بعد جدار برلين، والتعامل مع العراق كدولة نفطية أولاً لا كشعب له طموحات وتصورات خاصة تحتاج لهذه الثروة قبل شركات أميركية وبريطانية أغرقها الفساد السياسي.
لدى الإدارة الأميركية من الهوامش ما يسمح لها بتحديد الخسائر، فهي ليست في الوضع الذي كان عليه الاتحاد السوفياتي عشية خروجه من أفغانستان. وفشلها الإمبراطوري لا يعني نهاية هيمنتها على اقتصاد العالم وكونها القوة العسكرية الأكبر من بعيد لسنوات. أما الحكومة العراقية فلم يعد أمامها الكثير من الوقت وعوامل الثقة، فمنذ تحولت وزارة الداخلية إلى إحدى الميليشيات وصارت المعادلة الطائفية والإثنية أقوى من الوطنية والمواطنية، لم يعد هناك من فارق بين تسمية ما يحدث حرباً أهلية أم مجرد غياب كامل للأمن ودولة القانون؟
إقرأ أيضا لـ "هيثم مناع"العدد 1392 - الأربعاء 28 يونيو 2006م الموافق 01 جمادى الآخرة 1427هـ