قبل أسبوع كامل، وتحديداً يوم الأربعاء الماضي، جدّد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح عزمه على عدم الترشح للانتخابات الرئاسية. وقال بالحرف الواحد، أمام ستة آلاف يمني من مندوبي حزبه: «كفى حكم عاماً». وأكد رغبته في إرساء «نموذج ديمقراطي يمني رفيع يؤسس لثقافة التداول السلمي للسلطة»! وذهب إلى إصدار توجيهات مشددة لرئيس وزرائه بمنع التظاهرات والمسيرات التي تناشده بالعدول عن قراره! بل إن الـ «يونايتد برس» نسبت إلى «مصادر موثوقة» أنه عقد العزم على عدم التراجع عن قراره.
في يوم الخميس، صعّد الرئيس لهجته بقوله: «أنا لست سيارة تاكسي يستأجرني حزب المؤتمر أو غيره من القوى السياسية لكي أقلها إلى الفنادق»! رافضاً أن يكون مظلة لفساد حزب سياسي أو قوى معيّنة لتفسد على حساب سمعته وعرقه وجهده. يومها، توقعت مصادر في الحزب الحاكم أن يقترح الرئيس ترشيح أسماء معيّنة لخلافته.
لكن ما حدث يوم السبت، هو أن الرئيس قاد انقلاباً أبيض ضد نفسه، نسف خلاله كل وعوده بالتنحي، وتخلّى عن فكرة تقديم «نموذج عربي رائع» وإرساء مبدأ تداول السلطة سلمياً! بل إنه ارتضى أن يكون «سائق تاكسي» هذه المرة ليس للحزب الحاكم ومنتسبيه والمتنفذين فيه والمتسلقين عليه فحسب، بل لجماهير شعبه التي جفت مدامعها من البكاء حزناً على فراقه لمنصب الرئاسة... ليقودهم إلى مرفأ الحرية والأمان والاطمئنان، على ظهر سفينة الديمقراطية التي لا تغرق!
في التلفاز، وفي أجواء المسرحيات السياسية التي برع العرب في إخراجها بصورة فانتازية، خرجت فتاةٌ ملثمةٌ تعبّر عن سعادتها الغامرة بـ «تفضّل» الرئيس وتكرّمه وتحننه وتلطفه بالتنازل إلى رغبة شعبه العارمة في البقاء بالسلطة، واعتبرته حاكماً صالحاً مثل رسول الله (ص)! (نستغفر الله).
بعد أيام، وصف نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية محمد السيد سعيد ما جرى في اليمن بأنه «كان مهزلة من البداية إلى النهاية»، مفسراً ذلك بقوله انه «حين تسيطر على الهواء والماء والأرض والناس يصبح من الصعوبة بمكان التخلّي عن هذا الدور».
هذه المهزلة العربية النموذجية، لم يصدّقها اليمنيون بطبيعة الحال، فأكثر من نصفهم يشككون في نزاهة الانتخابات المقبلة، كما أوضحت الاستطلاعات، خصوصاً أن لهم تجربة سابقة في أول انتخابات رئاسية مباشرة العام ، إذ لم يحصل منافسه إلاّ على أقل من أربعة بالمئة من الأصوات!
على الصعيد الداخلي، أهل اليمن أدرى بشعابها، وما تعانيه من بطالة وأزمة اقتصادية، وحكومة متهمة بالفساد، في بلد تعتبر من أفقر دولة في العالم، بحسب تقارير البنك الدولي. ومع ذلك احتفظت الولايات المتحدة بموقف مؤيد لبقاء صالح رغم مناداتها بالإصلاحات السياسية وإنهاء الحكم الاستبدادي في إقطاعيات الشرق الأوسط. وهي الاستراتيجية الأميركية التي تعيد إنتاج البؤس ونشر الفوضى في المنطقة، مقابل نظام سياسي عربي الذي «يساعد على خلق دكتاتور تلو الآخر»، في ملهاة عابثة لا تنتهي كما يقول سعيد: «إذا كنت لا أريد ترك السلطة أبداً فلابد أن أقنع الجميع بأنني عبقري لا غنى عنه يحبه الشعب»... وتلك هي نكبة اليمن السعيد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1392 - الأربعاء 28 يونيو 2006م الموافق 01 جمادى الآخرة 1427هـ