نحن الذين أتقنا صناعة الحكام، وتحويلهم فجأة إلى طغاة، وعدنا إلى ما كنا عليه في الزمن الغابر القديم، حين كانت حضارتنا الأولى تدمن تأليه الحكام، وتصنع لهم التماثيل وتعبدها ثم تلعنها وتدمرها، لتعود إلى أول القصيدة من دون كلل أو ملل.
ربما تكون الحضارة الفرعونية هي التي بدأت تأليه الحاكم الفرعون، وعبادته وتحويله إلى إله تقدم اليه القرابين، وتدين إليه بالسمع والطاعة المطلقة، وتنتظر منه الرضا والقبول، ثم إذا ما مات أو ضعف تنقلب عليه وتدمر صورته، لتعبد فرعونا إلهاً آخر يخلفه!
وكذلك فعل العرب قبل الإسلام، حين كانوا يعبدون الأوثان، يصنعون الآلهة على شكل تماثيل ينصبونها في رحاب الكعبة، يقدمون اليها القرابين، ثم إذا ما انقلبوا عليها أزالوها، وأقاموا بديلاً لها.
فهل ننقلب إلى طريق الارتداد الآن، عودة إلى عادة تأليه الحكام وصناعة الطغاة وعبادتهم من دون الله... أظن ذلك وأمامنا الدلائل والبراهين تترى وتتابع، تؤسس للدكتاتورية، وتعطل أي إصلاح ديمقراطي، وتكبل الحريات، وتوقف نمو المجتمع ومؤسساته المدنية، وتصادر حرية الرأي والفكر والاجتهاد والتعبير، إذ لا صوت يعلو على صوت الحاكم المؤله، الكل ينتظر إشارته ويقبل قراره ويؤمن بحكمته ورشاده، ولا يرضى بغيره بديلاً، حتى لو أراد هو، أو مرض وتعب وأصابت الشيخوخة عضلات جسده ونبضات قلبه وقدرات عقله!
وخذ عندك ما جرى ويجري في اليمن نموذجاً لما ندعي... منذ احد عشر شهراً، أعلن الرئيس علي عبدالله صالح، بوضوح أنه سيتخلى عن الحكم مع انتهاء مدته الراهنة، بعد أن قضى عاماً حاكماً، وعلى الشعب اليمني اختيار رئيس جديد في انتخابات سبتمبر/ أيلول .
والواضح أن قرار الرئيس لقي في البداية ترحيباً في أوساط الشعب اليمني «المتمرد تاريخيا»، فهذا حاكم يترك الحكم برغبته وارادته، وليس بانقلاب عسكري دموي، كما تعود عالمنا العربي خلال العقود الأخيرة، وهذا رئيس للبلاد يقول للشعب، انتخب غيري، كفى أكثر من ربع قرن في سدة الرئاسة، بعد أن كان الحكم في عصر الإمامة وراثياً أبديًّا، وبعد معاناة الانقلابات العسكرية المتوالية منذ الثورة في الستينات حتى الآن.
لكن الحواريين وأصحاب المصالح ومراكز القوى، قالت لا لقرار الرئيس، لن يتنحى أو يعتزل، فبحكمته تحكم البلاد وبرشده تدار أمور العباد، فكيف نتركه وكيف يتركنا وسط الأنواء... وعلى الفور احتشدت الحشود وانطلقت المسيرات والمظاهرات، المنظمة غالباً والتلقائية نادراً، تقول لا لقرار الرئيس بالاعتزال، لا لانتخاب رئيس جديد، أي باختصار لا لتداول السلطة وممارسة الديمقراطية وحرية القرار وحق الاختيار.
وقبل أيام عقد حزب المؤتمر الشعبي العام، حزب الرئيس الحاكم، مؤتمره العام، وقرر ضرورة الاصرار على ترشيح الرئيس علي عبدالله صالح لفترة رئاسية جديدة، وهو الذي حكم لنحو عاماً متصلة، ومعارضة قراره بالاعتزال ومطالبته بالاستمرار... لماذا!
«لأن مؤسسات البلد الرسمية والشعبية، ليست مهيأة في الوقت الراهن، لتداول السلطة، وبالتالي يجب على الرئيس أن يكمل مشوار البناء والاستقرار، ذلك أنه ليس من أخلاق ربان السفينة أن يتركها في الأمواج المتلاطمة، وهو قادر على ايصالها إلى شاطئ الامان، ان دافعنا للتمسك بالرئيس لقيادة مسيرة الوطن، هو الخوف على مستقبل البلد وعلى مستقبل أولادنا...».
وهذا كلام أحد كبار المسئولين في حزب المؤتمر الحاكم، وهو أولا كلام فيه قدر هائل من النفاق المعهود، واظنه يسيء إلى الرئيس نفسه، من حيث لا يدري المسئول إياه، لانه يتهم الرئيس بالتهرب من استحقاق وطني ملح، والهروب من سفينة الوطن التي تهددها الأمواج المتلاطمة، والتقاعس المتعمد عن ايصالها إلى شاطئ الامان.
طبعاً لا يقصد المسئول ذلك، لكنها الدبة التي قتلت صاحبها بحجر، حين أرادت منع الذباب من مضايقته وهو نائم، هكذا نحن بحكم ثقافتنا وميراثنا القديم، نرتد إلى مضارب القبيلة، نحتمي بشيخها بالأب والزعيم نقدسه ونحترمه ونعبده ثم نلعنه ونخلعه وندمره، حين تنقلب الموازين.
وسواء كان الرئيس علي عبدالله صالح، المولود في ، والذي تولى الحكم العام والمنتسب إلى قبائل حاشد ذات النفوذ، صادقا في رغبته في اعتزال الحكم، أو كان يطلق بالونة اختبار، فانني كنت أميل إلى تصديقه في التنحي، لكن تركيبة الحكم التي صنعها بنفسه على مدى السنوات الطوال، هي التي لا تقبل قراره، لأنه قرار يهدم التركيبة ذاتها، التي استقرت واستفادت وبنت العلاقات والمصالح، ورتبت لتبادل المواقع، بما فيها موقع الرئيس بالتوريث أو بغيره، وهي التي حشدت الحشود وجيشت المظاهرات المطالبة بضرورة عدول الرئيس عن قراره، حتى لا تغرق سفينة الوطن وسط الانواء، فرضخ الرئيس ووافق على الاستمرار في الحكم وإعادة ترشيح نفسه، نزولا عند إرادة الجماهير!
وبالضرورة فان الرئيس أعلى سلطة مسئولة في البلاد، يظل هو المسئول عن كل ما بنى وشيد، سلباً أو ايجاباً، فبقدر مسئوليته عن حرب توحيد شطري اليمن الشمالي مع الجنوبي، بقدر مسئوليته عما وصلت إليه البلاد وما تعيشه من احوال اقتصادية واجتماعية، سياسية وأمنية، بقدر مسئوليته أيضاً عن بناء سلطة الحكم ودوائرها المتشابكة من حوله، كتشابك بطون القبيلة حول شيخ القبيلة الأكبر، الأمر الذي شكل عامل الضغط لمنعه أو اقناعه بعدم اعتزال الحكم والاستمرار في سدة الرئاسة، حتى يتم تأهيل الوريث، سواء كان ابنه العقيد احمد قائد الحرس الجمهوري، أو غيره من الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس احاطة السوار بالمعصم!
والحقيقة ان الرئيس اليمني ليس وحده في هذا، وحالته ليست فريدة في عالمنا العربي، المحكوم بميراث تأليه الحكام وعبادتهم ثم لعنهم سراً، لكنها حالة متكررة عبر التاريخ، ولعلنا مازلنا نذكر، أن الزعيم جمال عبدالناصر، وقد اعترف بمسئوليته عن هزيمة ، أعلن تنحيه عن الحكم، لكن الجماهير الهادرة خرجت مصدومة إلى الشوارع، تطالبه بالبقاء وعدم التنحي، على رغم النكسة والهزيمة العسكرية المهينة... وحين عاد عبدالناصر إلى تحمل المسئولية والى كرسي الرئاسة، فقد اقر قاعدة جديدة في بلادنا، يسير عكسها الآخرون في النظم الديمقراطية، فحين يفشل رئيس أو حتى زعيم حزب، يبادر إلى التنحي فورا، ليأتي غيره في ظل الايمان بتداول السلطة وتبادل المواقع وتجديد الدماء.
وللأسف فإن الجمهوريات العربية، تسير على منوال الملكيات العربية، سواء للبقاء في الحكم، حتى الموت، أو بقاعدة توريث الحكم، وانظر ما جرى ويجري في أهم الجمهوريات العربية، مصر، ليبيا، سورية واليمن، ومن قبلها العراق، في ظل نظام البعث الصدامي المعروف... فإن كانت مصر سباقة في تعديل دستورها وإلغاء شرط عدم بقاء الرئيس في الحكم لأكثر من مدتين (تعديل ) لتصبح مدد الحكم مفتوحة، فإن سورية كانت سباقة في اقرار قاعدة توريث الحكم من الأب لابنه، إذ حكم الرئيس حافظ الأسد لنحو ثلاثين عاماً، ثم حين توفي بعد مرضه، خلفه ابنه بشار، بترتيبات سياسية وحزبية محكمة، في حين ظل الزعيم الليبي معمر القذافي يمسك بزمام الحكم منذ سبعة وثلاثين عاماً، حتى وهو يختفي وراء نظام الجماهيرية الشعبية، وها هي الجزائر تعمل الآن على تعديل دستورها، لتتاح فرصة التجديد للرئيس بوتفليقة لمدة ثالثة وربما أكثر!
والخلاصة... ان تخلفنا وجهلنا وثقافتنا وميراثنا الاستبدادي، لايزال يفرض قيوده على مجمل حياتنا، بما في ذلك معاداة الديمقراطية ومصادرة الحرية، وما بقاء الحكام في الحكم لفترات طويلة، ومحاولات توريث هذا الحكم، والتنازل عن قاعدة تداول السلطة بانتخابات نزيهة، سوى نتيجة لهذا الميراث وثقافة الاستبداد، وهيمنة مراكز القوى وجماعات المصالح وعصابات الفساد وأعداء الحرية، الذين يبنون شبكة خانقة حول كرسي الرئاسة، يحمون بها مطامعهم ويصونون مطامحهم.
أما ونحن نتحدث عن حتمية الإصلاح الديمقراطي، فمن الضروري مواجهة تلك الأوضاع الشاذة، القائمة على صناعة الطغاة وتأليه الحكام، وذلك بإعادة صوغ علاقة الحاكم بالمحكوم، علاقة السلطة بالمجتمع، وفق عقد اجتماعي جديد، ينظمه دستور ديمقراطي حديث، يطلق الحريات المدنية العامة، ويصون حقوق الإنسان، ويعيد وضع الحاكم في موضعه، خادماً للشعب وتحت رقابة المؤسسات الدستورية، وليس حاكماً فرداً، أو طاغية يعبده الناس من دون الله.
وليت المنافقين يمتنعون!
خير الكلام
قال معاوية بن أبي سفيان:
إننا لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1391 - الثلثاء 27 يونيو 2006م الموافق 30 جمادى الأولى 1427هـ