مضى أكثر من مئة يوم على تشكيل «حماس» الحكومة الفلسطينية. والمئة اليوم تعتبر عادة وحدة قياس زمنية لتقدير الحكم على نجاح أو فشل سياسة حكومة ما في أي بلد يمر في ظروف طبيعية. فلسطين طبعاً ليست من هذه البلدان، وهذا يعني أن فترة القياس لا تنطبق عليها الا في حدود نسبية. فهذا البلد يعيش في حال طوارئ دائمة يسيطر عليها فضاء عام يتميز بالقلق والتوتر والاستثنائية. فالفترة مضت في ظل مشاحنات داخلية خيمت عليها تهديدات إسرائيلية بالاجتياح مترافقة مع ضغوط دولية ومقاطعات وحصار عقاباً على اختيار الشعب الفلسطيني.
الآن وبعد انقضاء المئة اليوم تبدو الأمور تتجه نحو التصادم. فـ «إسرائيل» استنفرت قواتها وأنذرت قيادة «حماس» وحكومتها بإعادة احتلال غزة رداً على عملية فدائية استهدفت دورية عسكرية أسفرت عن مصرع ثلاثة وأسر جندي (فرنسي الجنسية) نقل إلى داخل القطاع. وبين اليوم وغد لا يعرف اتجاه الرياح الساخنة. فهل تنفذ «إسرائيل» تهديداتها وتجتاح القطاع أم تتوقف آلتها العسكرية في مكانها، هذا الأمر أم ذاك غير مؤكد إلا أنه يرجح من خلال قراءة المسار العام احتمال التصعيد والمزيد من الضغط على حكومة «حماس» والشعب الفلسطيني.
التهديد بالاجتياح وإعادة الاحتلال جاء مصادفة مع انقضاء وحدة القياس الزمنية، لكنه يشكل سياسة عادية وشبه يومية اختبرها مراراً الشعب الفلسطيني منذ أن حلت بأرضه تلك النكبة الكبرى. فهذا المشهد الذي قرره رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت سبقه إليه الكثير من قادة الكيان العبري، وبالتالي فإن تداعياته لن تكون أسوأ من تلك السلبيات التي تعوّد عليها الشعب الفلسطيني ونجح دائماً في التكيف معها وتجاوزها.
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير الذي قرره أولمرت يمكن الإشارة إلى أن «حماس» حتى اليوم نجحت في إدارة السلطة على رغم الصعوبات التي واجهتها محلياً وإقليمياً وعربياً ودولياً. فالمتوقع كان أسوأ وما حصل يؤكد أن «حماس» قادرة على حمل المهمة واستكمالها في حال توافرت الشروط الأفضل وهي شروط مطلوبة من القوى الأخرى للمساعدة على انقاذ ما هو موجود وتطوير الضروري منها.
خلال المئة اليوم كان بإمكان «حماس» أن تحقق الكثير من النقاط لو لم تواجه تلك العراقيل الداخلية التي اتصفت أحياناً بالنزق السياسي الضيق الأفق وأدى إلى تغليب الخلافات المحلية على تلك المخاطر التي تهدد مختلف القوى ومن دون تمييز بين فريق وآخر. المفاجأة التي لم تتوقعها «حماس» كانت تلك التصرفات الصبيانية التي صدرت عن بعض قادة «فتح» وكادت أن تؤدي إلى مصادمات دموية لا يستفيد منها سوى ذاك الرابض الآن وراء حدود غزة ويهدد باجتياح القطاع.
هذه المفاجأة لم تدخل كما يبدو في حسابات «حماس». فالأخيرة درست كل الاحتمالات من حصار وتجويع ومحاولات ابتزاز من نوع قطع المساعدات ومنع تحويل الأموال أو نقل الغذاء بهدف تحريض الشارع وتأليب الناس ووضع القوى أمام خيار الاستسلام والاعتراف غير المشروط. وهذه الاحتمالات كانت واردة في تفكير «حماس» وكما يبدو أن قادتها وضعوا مجموعة خطط للالتفاف حولها والتعامل معها. إلا أن احتمال انقلاب بعض أجنحة «فتح» وبهذه السرعة ضد سلطة «حماس» كان غير مطروح على برنامج الحكومة. وهذا الشأن عطل تحركات «حماس» وأربكها كثيراً وخصوصاً في مسألة «وثيقة الأسرى» والاستفتاء الشعبي عليها... والمهلة الزمنية التي أعطاها الرئيس الفلسطيني للموافقة على بنودها وتحديداً الاعتراف بـ «إسرائيل» وكل الاتفاقات الموقعة معها.
هذا الأمر لم تأخذه «حماس» جدياً في خطتها وربما افترضت أن مثل هذا الاحتمال غير وارد حصوله. وعندما حصل ارتبكت قيادتها ووجدت في تصرفات محمود عباس حركات استفزازية تريد ابتزاز الشارع الفلسطيني وتوريطه في انقسام سياسي لا مبرر له.
لاشك في أن الرئيس عباس استفاد من الغطاء الإسرائيلي والدعم الدولي، إضافة إلى سكوت قوى عربية إقليمية تجاه الظلم الذي أضيف على نكبة الشعب الفلسطيني بقصد ابتزازه ووضعه أمام خيارين: التجويع أو الاعتراف المذل.
كل هذه العناصر استخدمها الرئيس الفلسطيني للضغط على «حماس» وجرجرتها إلى المكان الذي يراه مناسباً تمهيداً لإعادة الاعتبار إلى أطروحات يصفها بالواقعية السياسية. إلا أن هذه الخطة لم تنجح حتى الآن وبعد مرور أكثر من مئة يوم على تولي «حماس» السلطة الفلسطينية.
ماذا بعد انتهاء الفرصة الزمنية؟ أجوبة كثيرة تطرح على بساط البحث في وقت تطرق قوات الاحتلال على أبواب غزة مهددة بالاجتياح. لكن النتيجة العامة لن تختلف عن المبدأ العام وهي أن «إسرائيل» ستبقى على حالها تناور وتخالف وتغافل القوى الدولية والعربية للاستمرار في احتلالها مهما تكن نتيجة الاستفتاء على «وثيقة الاعتراف». فالمشكلة في النهاية ليست من يحكم الشعب الفلسطيني بل من يقرر مصيره
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1391 - الثلثاء 27 يونيو 2006م الموافق 30 جمادى الأولى 1427هـ