لم يسلم مفهوم التنمية المستدامة من محاولات التسييس والادلجة. إن حداثة المفهوم شجعت على بروز تيارات ايديولوجية تحاول استقطاب التنمية المستديمة وتوظيفها توظيفاً سياسياً وايديولوجياً. لقد برزت كتابات كثيرة تعبر عن هذا التيار الاقتصادي المحافظ للتنمية المستديمة، والذي يحاول المصالحة بينها وبين النظام الرأسمالي العالمي ربما كان أهم وأبرز من ساهم في هذا الصدد هو إدوارد باربير الذي يعتبر أول من استخدم مفهوم التنمية الاقتصادية المستديمة. إن التنمية المستديمة بالنسبة إلى باربير هي التنمية التي تحقق التوازن بين النظام البيئي والاقتصادي والاجتماعي وتساهم في تحقيق أقصى قدر من النمو والارتقاء في كل نظام من هذه الأنظمة الثلاثة، من دون ان يؤثر التطور في أي نظام سلباً على الأنظمة الأخرى.
ومن هنا يعدو و اضحا ان مفهوم التنمية المستدامة على رغم شموله على الكثير من الجوانب الايجابية المحدثة التي تستجيب للاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية فإنه لم يعد كافيا لتحقيق تنمية مستقلة تأخذ في الاعتبار التناقض القائم بين تحقيق تنمية مستدامة من جهة وكوننا جزءاً من نظام اقتصادي رأسمالي عالمي يعادي متطلعات واهداف التنمية المستدامة من جهة أخرى. لذلك كان لابد ان تضع التنمية في اعتبارها التخلص من التبعية الاقتصادية والاعتماد على الذات. ومن هنا جاءت جهود المفكرين الاقتصاديين في كثير من الدول العربية والنامية من أجل تطوير مفهوم التنمية المعتمدة على الذات. ووفقاً لهذا المفهوم فانه تعني التنمية بكل بساطة للإنسان العادي ايجاد فرص العمل وتحسين الدخل والطعام والرعاية الصحية والملبس والسكن الملائمين والنقل المنتظم والرخيص ومدارس أكثر عدداً وأفضل نوعية والطمأنينة والمستقبل الأفضل للاولاد وحرية تكوين النقابات والانضمام اليها والقدرة على التعبير وابداء الرأي بحرية، فانها ايضا تعني بالنسبة للسياسي والاقتصادي عملية تراكمية متصلة تتكون من جملة من التبدلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تشارك في فعلها عبر تغذية عكسية متبادلة، عملية تنطلق من رؤية ذاتية للعمل على تطوير قدرات الاقتصاد والمجتمع وتمكينها من توفير القوى البشرية والموارد المادية والمالية لتعزيز وترشيد الانتاج الاقتصادي.
ان التنمية ليست أقل من مشروع حضاري للمجتمع بأسره في جميع نواحي الحياة، والى ذلك المدى يتطلب إعادة تثقيف اجتماعي جذرية وعميقة وعلى جبهة عريضة للمواطنين وهذا يتطلب بدوره جهداً مجتمعياً ضخماً وعقوداً من الزمن ان لم نقل أجيالاً ليصل الى نقطة يصبح عندها أثره واضحاً في نظام القيم السائدة والمواقف الفكرية والتوقعات الاقتصادية والسلوك الاجتماعي والمؤسسات وصيغة التنظيم الاجتماعي وخلفية العمل. وبهذا المعنى ايضا فان التنمية يجب ان تستهدف بالدرجة الاساس الاكثرية المحرومة والفاقدة للسلطة.
ان توصيف معنى ومضامين التنمية هذا يعني بالضرورة انها تنمية معتمدة على الذات وذلك في مقابل نماذج التنمية المشوهة التي تعمق التبعية وتؤدي الى مزيد من التخلف الاجتماعي والسياسي وان غلفت ببعض النجاحات الاقتصادية. وبالتالي فان التحدي الأبرز الذي يواجه الدول النامية ومنها الدول العربية هو بلوغ نموذج التنمية المعتد على النفس.
ويستدعي ذلك ضرورة توفر الادارة المجتمعية لمجابهة تحدي التخلف والتبعية. ان نموذج التنمية بالاعتماد على النفس يستدعي بوضوح تبني مفهوم المراحل في تطبيقه وتتفاوت المراحل وطبيعتها وفقا لظروف كل بلد
العدد 1391 - الثلثاء 27 يونيو 2006م الموافق 30 جمادى الأولى 1427هـ