العدد 1390 - الإثنين 26 يونيو 2006م الموافق 29 جمادى الأولى 1427هـ

الفاعلون السياسيون ومكر التاريخ

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لا يكمن الاختلاف الأساسي بين خطاب قادة هيئة الاتحاد الوطني، وبين خطاب قوى المعارضة اليوم، في درجة الإحساس بالزمن، بل في الزمن المقصود بهذا الإحساس، فبقدر ما انطوى خطاب قادة الهيئة على إحساس حاد بزمنهم الراهن وناسهم المباشرين، فإن خطاب المعارضة اليوم ينطوي على الدرجة نفسها من الإحساس، إلا إنه إحساس تجاه الزمن القادم، تجاه المستقبل، تجاه الأجيال القادمة. وهي النزعة التي أطلقنا عليها اسم «الهوس بتسجيل المواقف للتاريخ».

ينطوي هذا الهوس على رغبة في استمرار الذكر وضمان جميل التذكر في المستقبل. إلا أن هذه الرغبة تعكس حالاً من العجز عن الفعل في الزمن الحاضر ومن أجل الناس المباشرين. وفي مقابل ذلك، لم يكن خطاب قادة الهيئة مبتلى بهذا الهوس، لأنه ببساطة كان قادراً على الفعل أو هكذا خُيّل لأصحابه. ولذلك السبب لم يكن هذا الخطاب معنياً عناية شديدة بجميل التذكر، ولم يكن الخوف من انقراض الذكر وانقطاع الخبر من مشاغله الواعية والملحة. بل كان بعضهم على يقين من أن الشعب سينساهم بل ربما انقلب ضدهم، أليس هذا هو ما تنبأ به إبراهيم فخرو وأسرّه في السجن إلى عبدالرحمن الباكر، وذلك حين قال: «أنا أعرف شعب البحرين وقد اختبرته في السابق، إنه سينسانا جميعاً بل ربما لعنونا وشتمونا وألصقوا بنا أموراً نحن أبرياء منها»؟ أليس هذا هو ما شاهده الباكر نفسه وهو في طريقه من السجن إلى المحكمة إذ رأى الناس من حوله يتفرجون، فقال: «كنتم البارحة تصفقون لنا». هل تحققت نبوءة إبراهيم فخرو؟ وهل كان مشهداً حقيقياً غير مفبرك ذاك الذي رآه الباكر في الطريق إلى المحكمة؟

سيجيب البعض بالإيجاب كما أجاب الباكر نفسه حين كتب أن إبراهيم فخرو «والزميل المغفور له إبراهيم بن موسى قضيا تسع سنوات في سجن جِدا في البحرين نسيهما شعب البحرين ولم يقدر لهما تضحياتهما». ومع هذا لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه التضحيات تضحيات لتسجيل مواقف للتاريخ أو هي من أجل الظفر بجميل الذكر لدى الناس أو لدى الأجيال القادمة؟ فإذا كانت كذلك فمن حق قادة الهيئة ممن سجن وممن نفي أن يشعر بعظم المصيبة وهول الخسارة؟ ولكن ما يذكره الباكر بعد ذلك بقليل يثبت أن هذه لم تكن هي مقاصدهم، ولهذا لم يكن ما انتهوا إليه من نفي وسجن ونسيان وتنكر الناس لهم هو الخسارة التي لا تعوض. وفي هذا يقول الباكر: «ومع ذلك فإنه لا يفت في عضد المصلحين والمطالبين بإحقاق الحق في هذه الدنيا أن تجحد مجهوداتهم في سبيل رفعة وطنهم».

لا يخرج الفعل السياسي، بما في ذلك التضحيات، عن إطار مقولات الربح والخسارة، وهذه مقولات نسبية، إلا أن لكل فعل ثمنه، وللتضحيات ثمن كأي فعل. وحين يكون المقصد من وراء التضحيات هو ما أسماه الباكر «رفعة الوطن» و«الإصلاح» و«نيل الحقوق كاملة غير منقوصة» فإن مفاهيم الربح والخسارة في العمل السياسي تختلف، كما أن درجة تحمّل الفاعل السياسي للخسارة تتبدّل. وحين تفشل تضحيات الفاعل السياسي فإنه قد يكون خاسراً، لكن الخاسر الأكبر هو الوطن والشعب والأجيال القادمة. وكأن هذا الفاعل السياسي بمقاصده الأخيرة يعمّم الخسارة على الجميع إذ على الكل أن يتحمل هذه الخسارة. وهنا ليس ثمة مواقف تسجّل للتاريخ، بل خسارة على الجميع أن يتحملوها.

أما حين يكون الفعل السياسي والتضحيات من أجل تسجيل مواقف للتاريخ فقط فإن الخسارة الكبرى، بحسب هذا المنطق، هي انقراض الذكر وانقطاع الخبر ونسيان الأجيال القادمة لهذا الفعل ولهذه التضحيات. والأكثر مرارة من ذلك هو أن تتنكر الأجيال القادمة لهذه التضحيات. ويعني النسيان هنا أن المواقف التي يراد تسجيلها لم تنقش في صفحة التاريخ، وأن ذاكرة التاريخ لم تحتفظ بما حفر عليها من مواقف وبيانات وتصريحات وتضحيات، وأن الأجيال القادمة لم تبرئ ذمة أصحاب «المواقف التاريخية»، التي لم تعد «تاريخية» بل صارت نسياً منسياً.

وإذا كان هذا هو النسيان فإن التنكر هو ضرب من التذكر إلا أنه تذكر سلبي يجرّد «التضحيات» و«المواقف التاريخية» من أية قيمة إيجابية، بل ربما جرى تحريفها وقلب مدلولاتها ومقاصدها فتتحوّل عندئذٍ التضحيات إلى خيانات، والمواقف التاريخية إلى مواقف انتهازية ذات عواقب كارثية على الشعب والوطن، أو هي أخطاء لا تغتفر، وخسائر لا سبيل إلى تعويضها.

وعلى هذا، فعلى المهووسين بتسجيل المواقف للتاريخ أن يحذروا من حقيقة أن للتاريخ ذاكرة يسعى الفاعلون السياسيون لتسجيل مواقفهم في صفحاتها، إلا أن له في الوقت ذاته مكراً شديداً وقاسياً. ومكر التاريخ هذا هو ما عناه إبراهيم فخرو في نبوءته السابقة، وهو ما كُتب على الباكر أن يراه بأم عينيه في الناس المتفرجين من حوله.

إن من يكون غاية طموحه أن يسجل مواقف للتاريخ، فإن مكر التاريخ هو خسارته العظمى. أما من يكون غايته أن ينجز شيئاً على الأرض فإن خسارته هي عدم الإنجاز لا عدم الذكر، ولهذا لا يكترث هذا النوع من الناس بمكر التاريخ، ولا يضيره في شيء أن تتنكر له الأجيال القادمة أو تلعنه وتشتمه وتلصق به أموراً هو بريء منها أو حتى أن تنساه نسياناً كاملاً، أليس هذا ما عناه الباكر حين أشار إلى أنه لا يضير الفاعلين السياسيين ولا يفت في «عضد المصلحين والمطالبين بإحقاق الحق في هذه الدنيا أن تجحد مجهوداتهم في سبيل رفعة وطنهم»؟

ويترتب على اختلاف المقاصد في الفعل السياسي اختلاف آخر في مفاهيم الربح والخسارة، وفي معايير الحكم على الأفعال السياسية، وفي معايير النجاح والفشل، والتوفيق والإخفاق. فإذا كان الإنجاز أو عدمه هو معيار النجاح والفشل في خطاب الهيئة، فيمكن الحكم عندئذٍ على فعل/ موقف سياسي بأنه ناجح وموفق إذا أنجز شيئاً على الأرض، في حين يكون هذا الفعل/ الموقف فاشلاً وموسوماً بالإخفاق إذا لم يتمكن من الإنجاز.

وفي المقابل، ينطوي خطاب قوى المعارضة اليوم على معيار مختلف للحكم على الفعل/ الموقف بالنجاح أو الفشل، ويتمثل هذا المعيار في الذكر أو النسيان والتنكر. وبناء على هذا المعيار يكون الفعل/ الموقف السياسي ناجحاً وموفقاً إذا نُقش في صفحة التاريخ واحتفظ بموقعه في «ذاكرة التاريخ»، وانتشل نفسه من قبضة النسيان، وأمن من مكر التاريخ، في حين يكون الفعل/ الموقف فاشلاً إذا جرى نسيانه أو تنكرت له الأجيال القادمة.

يتميّز معيار حكم النجاح أو الفشل في خطاب الهيئة بكونه قابلاً للرصد والمعاينة المباشرة ومن قبل الفاعلين أنفسهم أو جمهورهم المباشرين، في حين أن معيار الحكم في خطاب قوى المعارضة اليوم قابل للرصد ولكن بصورة مؤجلة، فالحكم هنا معلّق في رقبة المستقبل والأجيال القادمة وحدها، لكون هذه الأجيال هي الجهة الوحيدة التي تستطيع الحكم على تلك الأفعال/ المواقف بالنجاح إذا بقيت وتمتعت بالذكر الجميل، أو بالفشل إذا نسيت وجرى التنكر لها أو تحريف مقاصدها ومدلولاتها «الأصلية».

والحال أن من تكون مواقفه من أجل الفعل والإنجاز في زمنه الراهن فإنه بذلك يصنع حاضره، ويحفر بذلك اسمه، ومن ثم مواقفه، في «ذاكرة التاريخ» والأجيال القادمة، فهذه مواقف يكتبها التاريخ وتحتفظ بها ذاكرته لكونها لم تكن من أجل التسجيل للتاريخ. في حين أن هذا التاريخ ينسى، بل قد يتنكر، لمن يكون همه تسجيل المواقف للتاريخ أو حفر الاسم في «ذاكرة التاريخ»، وكأن ذاكرة هذا التاريخ لا تحتفظ إلا بمن يتجاهلها ويضعها وراء ظهره، أما من يتجه إليها بقصد وتصميم فإنها تخيب ظنه، فيسقط من الذاكرة اسمه ومواقفه، وينقرض ذكره، وينقطع خبره. فمن كان عمله للتاريخ تجاهله التاريخ، أليس هذا هو مكر التاريخ؟ أليست هذه هي تلك الذاكرة التي تنفر من القصد؟

يذكر أن استجابات بعض القراء الكرام على مقال الأسبوع الماضي قد كشفت أن الهوس بالتذكر والتذكير هوس طاغٍ ومستحكم. فبعض القراء أخذ على المقال أنه لم يذكر اسماً واحداً من أسماء هذا التيار أو ذاك، أو أنه لم يشر إلى شيء من جهود هذا التيار أو ذاك. وبحسب هؤلاء فإنه لا يجوز إغفال ذكر جبهة التحرير البحرانية، وجبهة التحرير الإسلامية، بل ربما اعتبر بعضهم هذا الإغفال خيانة للتاريخ. في حين أن مدار الأمر في ذلك المقال لم يكن التأريخ للحركات السياسية ليؤخذ عليه أنه أغفل ذكر هذا التيار أو تلك الحركة السياسية. وإذا كان لمثل هذه المآخذ من دلالة فإنها تدلّ على أن هوس الفاعلين السياسيين اليوم بالتذكر والتذكير هوس عام ومستحكم على رغم الاختلافات السياسية القائمة بينهم. وفي هذا لا يختلف من يمارس الفعل السياسي بقصد تسجيل موقف للتاريخ عمّن يطالب بالكتابة عن هذه الحركة أو ذاك التيار من أجل التاريخ ووفاءً له. ففي الحالين، فإن التاريخ هو المقصد، أي أن الاثنين مهددان بالنسيان وبمكر التاريخ؛ لأن التاريخ يتجاهل من يقصده، وربما أعمل فيه مكره

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1390 - الإثنين 26 يونيو 2006م الموافق 29 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً