منذ انتخابات م النيابية ردد بعض المواطنين تعبيراً بليغاً أقرأ انعكاسه اليوم في أدبيات الانتخابات الديمقراطية. قالوا ما مؤداه: لا معنى للاقتراع من دون خيار والبعض منهم لم يقترع لأنه لم يجد المرشح الذي يستحق صوته. اليوم وفي انتخابات م الوضع مختلف، فالعبارة التي يكررها النشطاء والمحللون من أنه لا إمكان لإجراء انتخابات حرة ونزيهة إذا امتلك المسئولون السلطة المطلقة لتسيير الأمور والتحكم في المعلومات وفي تقسيم الدوائر وفي تحريك الكتل البشرية من المجنسين، وتشويه سمعة المنتقدين ومحاولة إسكاتهم بأية وسيلة لم تعد تتكرر. وبتنا في هذه الأيام نحلل جميع عناصر نظامنا الانتخابي وإدارته وعلى رأسها تقسيم الدوائر الانتخابية لنستوعب بحرقة تخلفنا عن الديمقراطيات الحقيقية .
فخبراء الانتخابات يؤكدون التأثيرات العميقة للتقسيم الانتخابي وتعديل الحدود الانتخابية على مفهوم وواقع فكرة التمثيلية الصادقة للمواطنين، بمعنى أن تمثيل الشعب في السلطة التشريعية يتحدد باختيار النظام الانتخابي المناسب، فقد يكون مشجعاً على التآلف الاجتماعي والتمثيل المتساوي أو النسبي للجميع، أو معززاً لهيمنة الحكومة أو الحزب الواحد. وبعد اختيار النظام الانتخابي يدرس الخبراء عناصر النظام الانتخابي الأساسية، ومن بينها ترسيم أو تقسيم الدوائر الانتخابية، ليدققوا في كيفية تطبيق إجراءات التقسيم الواقعية ويلحوا في طرح أسئلة من قبيل: هل تمنح أصوات جميع الناخبين ثقلاً متساوياً، هل تتفاوت أعداد المواطنين بين دائرة وأخرى، وبأية نسبة، ومن هي السلطة المسئولة عن التقسيم، أهي منحازة أم محايدة، وهل تتوافر آليات المشاركة العامة في عملية التقسيم وغيرها من أسئلة مهمة وحاسمة.
إن دولاً مثل أستراليا وكندا والمملكة المتحدة بعد أن اكتشفت انحياز بعض الهيئات التشريعية المخولة من حيث سلوكها ومحاباتها إلى هذا الحزب أو ذاك أوكلت مهمة التقسيم إلى لجان مستقلة وغير حزبية. أما أميركا التي يعترف الخبراء بأن تقسيم دوائرها يحابي أحد الأحزاب السياسية، على حساب الأحزاب الأخرى، ويصعب فيها الفصل بين السياسة الحزبية وعملية التقسيم الانتخابي، فإن المحكمة العليا فيها قامت منذ الستينات بإصدار سلسلة من القرارات أبطلت اختلالات عددية ملحوظة بين الدوائر وفرضت تحديداً عددياً للدوائر على أساس صوت واحد لكل فرد، بمعنى أن عدد سكان كل دائرة انتخابية يساوي عدد السكان في الولاية مقسوماً على عدد الدوائر المخصصة للولاية.
كذلك تباشر الأنظمة الديمقراطية القائمة على نظام الدوائر منفردة العضوية، الذي يعتمده أيضاً النظام الانتخابي البحريني، التقسيم والتعديل الدوري للدوائر الانتخابية لمنع الفوارق السكانية الكبرى بين دائرة وأخرى. فنيوزيلندا مثلاً، تجري التقسيم كل خمس سنوات بكلفة معقولة وفي الولايات المتحدة، شارك آلاف الأشخاص العام في إعادة تقسيم الدوائر لانتخابات الكونغرس، بكلفة عشرات الملايين من الدولارات، ونظراً إلى الكلفة العالية فإنه جرت العادة أن يعاد رسم الدوائر الانتخابية كل عشر سنوات مباشرة بعد إنهاء الإحصاء العشري للسكان .
وعموماً، يتحدث خبراء الانتخابات عن عدد من المبادئ بشأن التقسيم الانتخابي، أهمها الصفة التمثيلية والمساواة بين عدد الناخبين والمعاملة بالمثل وحيادية السلطة المسئولة عن تحديد الدوائر الانتخابية التمثيلية، بمعنى أنه يجب أن تعكس حدود الدوائر وحدة مصالح المجتمعات المحلية، بحيث يتمكن الناخبون ضمن حدود الدائرة من انتخاب المرشح الذي يمثلهم حقاً، لا أن يفتتوا بين دوائر عدة يصبحون فيها أقليات غير قادرة على إيصال ممثل لها إلى الهيئة التشريعية... أما المساواة بين عدد الناخبين فتعني أن التقسيم الانتخابي يضمن المساواة بين الدوائر من حيث عدد السكان، فالفوارق السكانية الكبيرة بين دائرة وأخرى تتعارض مع مبدأ الديمقراطية التي تشدد على منح أصوات جميع الناخبين ثقلاً متساوياً. والمعاملة بالمثل تعني وحدة وتماثل الإجراءات والقواعد المتعلقة بالتقسيم الانتخابي، أياً تكن السلطة المسئولة عن العملية وأن تكون النتائج مقبولة من جميع الأطراف الرئيسية في العملية. وعن السلطة المسئولة عن التقسيم تشدد المعايير على كونها غير منحازة حزبية كانت أو مستقلة وأن يكون للسلطة التشريعية دور أكيد فيها وأن تسمح للناس بالمشاركة العامة في عملية التقسيم عبر آليات استقصاء الرأي العام.
هذه بعض من المعايير التي يوصي بها خبراء الانتخابات فهل من مجيب؟ فالحال البحرينية - التي سنتناول واقعها في المقالات اللاحقة - تبدو في الاتجاه المعاكس، ويبدو أن الخبراء الذين تستقدمهم حكومتنا الموقرة قد تخرجوا في معاهد أخرى ضمن رؤى معاكسة واتجاهات معاكسة وممارسات معاكسة
إقرأ أيضا لـ "فريدة غلام إسماعيل"العدد 1390 - الإثنين 26 يونيو 2006م الموافق 29 جمادى الأولى 1427هـ