العدد 1390 - الإثنين 26 يونيو 2006م الموافق 29 جمادى الأولى 1427هـ

جهالة سياسية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

جريمة خطف وقتل الدبلوماسيين الروس التي ارتكبتها مجموعة تطلق على نفسها «مجلس شورى المجاهدين» تدل على جهالة سياسية تضاف إلى ذاك الأسلوب المقرف والمثير للاشتمئزاز الذي ظهرت فيه مشاهد النحر. فهذا الأسلوب الذي دأب بعض الجهلة على افتعاله مشبوه في توقيته ويدل على وجود جهات اخترقت المقاومة وترتكب حماقات علنية للتشويش على حق الشعب العراقي في دحر الاحتلال وطرده واستعادة الاستقلال والسيادة. هذا النوع من التصرف الكريه يعطي ذريعة للاحتلال ويبرر أساليبه القهرية في القتل العشوائي ويغطي على تجاوزاته التي أخذت تدق أبواب «الكونغرس» وتفضح الإدارة الشريرة والدوافع الحقيقية الكامنة وراء اتخاذها قرار الحرب وغزو بلاد الرافدين.

جريمة قتل الدبلوماسيين الروس جاءت في وقت أخذت ترتسم في الأفق معالم حرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن. وهي أيضاً جاءت عشية إعلان رئيس الوزراء نوري المالكي عن مبادرة سلمية لتسوية الانشقاقات التي أخذت تزعزع الوحدة الأهلية للشعب. وأيضاً جاءت عشية زيارة أعلن عنها أمير منطقة الرياض سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو ويتوقع منها أن تسفر عن تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وتحديداً في مجالي النفط والأمن. ومثل هذا العمل الذي لا وظيفة له سوى اثارة الشبهات وعلامات الاستفهام والتعجب يصب في النهاية في اتجاهات تضر بالمقاومة وترفع عنها شرعيتها الدولية وتوسع جبهة الاعداء وكل من يؤيد الاحتلال ويبرر سياسته القانونية.

الجريمة ارتكبت باسم «الشيشان» وبالتالي فإن الطرف الذي نفذها لم يجد ذريعة لتبريرها سوى الإعلان عن أهداف غير عراقية وهذا أمر يزيد من متاعب المقاومة ويضيف إلى مهماتها مجموعة اثقال أخرى تتصل بنوع آخر من القضايا. والجريمة التي بررت القتل باستخدام نقاط غير متصلة بمهمة المقاومة المباشرة (طرد الاحتلال) تعطي الولايات المتحدة الكثير من «الصدقية» في محاولاتها لاقناع موسكو بالوقوف معها في تأييد اجتياحها العراق. والجريمة جاءت لترد على دعوات التفاهم وهذا يعني أنها تقدم للاحتلال ذريعة إضافية للقول إن الشعب العراقي غير جاهز لحكم نفسه وهو بحاجة إلى قوة أمنية «خارجية» لحماية أهله من الاحتراب الداخلي. كذلك جاءت الجريمة في وقت تستعد قيادة السعودية إلى توسيع خياراتها الدولية وتنويع مجالات تحركاتها في نطاق جغرافي آسيوي يحتاج إلى تنسيق مع الكرملين لبلورة خطوطه العريضة في المستقبل.

إعلان الجريمة في هذا التوقيت وتحت هذه الظروف والشروط يدل على جهالة سياسية ويفتح الباب على أسئلة من نوع: من يقف وراء هذه الجهات؟ ومن يمولها ويسهل أعمالها؟ ولخدمة من ترتكب مثل هذه الأفعال أو الحماقات؟

كل الأجوبة المحتملة تصب في اتجاه واحد وهو خدمة الاحتلال وتقديم كل الذرائع التي يحتاجها لتبرير وجوده العسكري. دولياً لا قيمة سياسية لمثل هذه الجريمة سوى زيادة الضغط على قوة كبرى لتغيير موقفها المعارض لقرارات الحرب والاجتياح والاحتلال وتحويلها إلى طرف متردد وحائر وربما يضطر إلى تعديل موقفه وسحب اعتراضاته على سياسة الولايات المتحدة في بلاد الرافدين. وإقليمياً لا معنى للجريمة سوى ارباك القيادة السعودية في سعيها السياسي إلى توسيع خياراتها الاستراتيجية وتنويع علاقاتها الدولية من خلال البحث عن مصادر وأطراف أخرى يمكن التنسيق معها أو الاعتماد عليها لتخفيف الضغوط الأميركية على المنطقة. ومحلياً لا فائدة من ارتكاب جريمة حمقاء باسم «الشيشان» ولأغراض لا تمت بصلة إلى شعب العراق الذي يعاني من انزلاقات خطيرة نحو الاقتتال الأهلي.

كل الأجوبة المحتملة تصب في طاحونة الاحتلال الأميركي للعراق. فالجريمة التي ارتكبت باسم «الشيشان» وتحت يافطة المقاومة تدل على جهالة سياسية لا يمكن تخيلها إلا في الأحلام والكوابيس. ماذا فعلت روسيا في العراق حتى تنفذ مثل هذه الجريمة ضد أربعة دبلوماسيين يعملون في طاقم السفارة في بغداد؟ موسكو وقفت ضد قرار الحرب في مجلس الأمن الدولي، وهي رفضت الاجتياح، وعارضت الاحتلال، واعتبرت أن مقاومة الجيوش المحتلة مسألة مشروعة تنص عليها المعاهدات الدولية. وروسيا أيضاً تعتبر من الدول الأربع الضد التي ناهضت دولياً تلك الاستراتيجية الأميركية التقويضية في منطقة «الشرق الأوسط الكبير». وروسيا لاتزال على موقفها الثابت على رغم خروج ألمانيا وفرنسا من جبهة «دول الضد».

لمصلحة من ارتكبت هذه الجريمة وغيرها من عشرات حوادث القتل والخطف والتفجير والتفخيخ وهي كلها لا فائدة منها سوى رفع الغطاء الدولي والعربي والإقليمي عن المقاومة وحق الشعب العراقي في تقرير مصيره. فالمقاومة في النهاية لا تستطيع أن تنتصر وسط عزلة محلية ومحيط خائف، وهي أيضاً لا قيمة لها إذا طردت الاحتلال وأذلت شعبها ودفعت قواه الأهلية إلى الانغلاق والتناحر والتقاتل. وكل مقاومة في النهاية تحتاج إلى مجموعة شروط للانتصار منها كسب ثقة الناس، وكسب الاحترام الدولي... واحترام حياة الإنسان. والمقاومة التي لا تحترم الإنسان وحياته ولا تكترث لتوازن المصالح في العالم ولا تهتم بكسب ثقة الناس هي في النهاية تحفر قبرها بيدها وتشق لنفسها طريق الانتحار السياسي.

الجريمة التي ارتكبت ضد الدبلوماسيين الروس وكل أولئك الذين خطفوا وذبحوا عن غير وجه حق تعكس جهالة سياسية. والجاهل هو العدو الأول للمقاومة والصديق الدائم للاحتلال وكل ما طمح إليه من دمار وخراب وأكاذيب

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1390 - الإثنين 26 يونيو 2006م الموافق 29 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً