بدأ القضاء في ميامي محاكمة خلية «مسلمة» يقال إنها حاولت الاتصال بتنظيم «القاعدة» بهدف تفجير برج «سيرز» التجاري في شيكاغو. الخلية تتألف من سبعة أشخاص وهم «لنفلستون» و«ناديمار» و«نارسل» و«روتشيلد» و«بارسون» و«باتريك» و«ستانلي».
هذه هي أسماء علم الخلية المسلمة التي تحاكم الآن في فلوريدا تحت إشراف عدالة حاكم الولاية شقيق الرئيس الأميركي جورج بوش. ومن أسماء الخلية يمكن ملاحظة المدى الذي وصلت إليه الإدارة الأميركية في استغباء الرأي العام ودافع الضرائب. فالمواطن الأميركي قليل المعلومات عادة ولا يهتم كثيراً بالشئون الخارجية ولا يكترث حتى بتلك الأخبار التي ترده من كندا والمكسيك. كذلك لا يستطيع أن يميز بين العراق وإيران ولا يعرف أين تقع السعودية أو مصر وحتى فرنسا وألمانيا. فهذه الأمور لا يتعاطى بها وإذا حاول استدراك معارفه فإنه يكتفي بالحد الأدنى والبسيط الذي يلبي حاجات سريعة لا تتطلب الجهد الذهني الكبير. فالمعلومات عند المواطن الأميركي العادي تشبه كثيراً تلك الوجبات الغذائية السريعة. فالقليل من المعلومات يكفي لاقناعه بأن «صدام» هو العدو والقضاء عليه مثلاً يخفف من المخاطر الأمنية ويحسن معيشته. فالمهم هو ابعاد شبح الخوف من مجهول يحيط به أو يهدده من الخارج أو الداخل. وحتى يقتنع هذا المواطن بصحة الروايات لابد دائماً من تذكيره بوجود مثل هذه المخاطر التي تهدد حياته وتؤثر سلباً على نمط معيشته ورفاهيته. القليل من المعلومات يكفي والقليل من الخبطات الصحافية كافية لغسل دماغه واقناعه بضرورة تأييد الإدارة ودعمها لأنها تقوم بمهمات «مستحيلة» تحتاج إلى قدرات «سوبرمان» لإنجازها.
المواطن الأميركي العادي يصدق بسرعة فهو أصلاً استقال من السياسة منذ عقود وترك للمؤسسات المختصة والإدارة تدبير شئونه الخارجية مقابل توفير الحد الأدنى للرخاء والاستقرار. والمواطن العادي ليس لديه الوقت الفائض للتدقيق والبحث عن الحقيقة. فالإعلام على موجاته المختلفة من مطبوعة أو مسموعة أو مرئية يعتبر هو المصدر الوحيد للاطلاع أو المتابعة. وهو عادة لا يكترث للأخبار الخارجية ويميل في طبعه (وهذه صفات أبناء الدول الكبرى) إلى متابعة الأخبار المحلية التي تتصل بالولاية التي يعيش فيها وأحياناً يعطي بعض الانتباه للولايات الأميركية الأخرى إذا كان هناك ما يلفت نظره.
هذا النوع من المواطنين لا صلة لهم بالسياسة الدولية للولايات المتحدة. لذلك تلجأ إدارات واشنطن دائماً إلى افتعال هزات إعلامية تشد انتباه الرأي العام (دافع الضرائب) إلى متابعة أخبار الرئيس «الشجاع» الذي يدافع عن المصالح الأميركية في الخارج لحماية أمن البلاد من خلايا نائمة تستغل «الديمقراطية» و«أجواء» الحريات والثقة بالناس لتنفيذ ضربات حاقدة تنم عن كراهية أو حسد الأجنبي من نجاح النموذج الأميركي. وحتى تقترب الصورة المبرمجة من عقلية المشاهد تبتكر الإدارات دائماً بطولات وهمية تخدع المخيلة من خلال تنميط شخصية الآخر حتى تكون مشابهة لصور الأفلام وأبطالها من نوع جيمس بوند (الجاسوس البريطاني صاحب الرقم ) أو «سوبرمان» الذي يتمتع بقدرات جبارة حملها معه إلى الأرض من العالم البعيد في مجرات السماء أو «مهمة مستحيلة» وهي تلك الأعمال التي يكلف بها رجال المخابرات لملاحقة أو معاقبة الأشرار.
هناك إذاً «خير» و«شر». فالخير ثابت في مكانه (أميركا) لا يتغير ولا يتحول ولا ينتقل، و«الشر» غير ثابت فهو مرة في موسكو، ومرة في بكين، ومرة في طهران، ومرة في بغداد، ومرة في كابول أو دمشق أو القاهرة... إلى آخر العواصم التي تكون على خلاف مع واشنطن. فالشر ينتقل بحسب الحاجة وضمن إطار خطة تتلون ضمن أصول الزمان والمكان، لكنها في النهاية تخضع لشروط المخرج الذي يتحكم بإدارتها من واشنطن. فالشر يمكن أن يكون بولندي أو ألماني أو روسي أوصيني أو كوري بحسب طلب إدارة البيت الأبيض. وكذلك يمكن أن يكون كل الألوان والأسماء التي يحتمل أن تتوزع على امتداد العالمين العربي والإسلامي.
هذه الصور النمطية دأبت عليها الإدارات الأميركية في «الحرب الباردة» وفي «السلم البارد» وهي مستمرة على إعادة إنتاجها في أشكال مختلفة منذ انهيار حائط برلين وسقوط «الستار الحديد» في المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي.
منذ التسعينات توقفت الصورة النمطية الشريرة على وجوه المسلمين. واستخدمت كل الأشكال الممكنة أو المتخيلة عن الإسلام والعالم الإسلامي لحفر تلك الكراهية العنصرية والحقد القاتل ضد العرب والمسلمين. واستهلكت كل الوسائل المرئية والمسموعة والمطبوعة لاقناع الجمهور الأميركي بعدالة الحرب التي يقودها السوبرمان «جورج بوش» ضد الإرهابيين الذين ينتشرون في العالم ويتخذون الألوان والأسماء والمواصفات والاشكال والصفات التي تجعل من جيمس بوند (جورج بوش) يسهر الليل والنهار لتنفيذ تلك «المهمات المتسحيلة».
المواطن الأميركي العادي يصدق هذه الحكايات المختلقة ويصفق لتلك البطولات الوهمية التي تطلع عليه يومياً الصحف بأخبارها ومحطات التلفزة بصورها. فهذا المواطن بريء إلى حد البساطة والسذاجة وهو لا يملك البديل ولا الدليل الذي يعطيه الحجة بتكذيب تلك الاختلاقات والاختراعات. كذلك فهو لا يقدر على التمييز بين الحالات والتقاط الاختلاف بين الأشكال. وحتى أنه لا يعرف أن المسلمين لا يسمون أولادهم بأسماء غريبة لا تنسجم مع ثقافتهم وموروثهم وهويتهم. المهم عنده أن شقيق الرئيس «البطل» حاكم ولاية فلوريدا أنقذ برج سيرز في شيكاغو من كارثة تشبه كثيراً تلك التي حصلت قبل سنوات تقريباً في نيويورك ودمرت مركز التجارة العالمي.
هذا ليس الجديد في المعركة الأميركية. فمثل هذه التمثيليات قديمة. الجديد فيها أن البطولات الوهمية انتقلت من صورة الحرب ضد الأشرار في الخارج إلى مشهد الحرب المستمرة ضد الأشرار في الداخل. فالعدو المسلم أضافة إلى ذاك الموجود في إيران وأفغانستان والعراق وسورية ولبنان وفلسطين والسودان انتقل إلى الساحة الداخلية وبدأ يمد شباكه وخلاياه إلى ميامي وصولاً إلى شيكاغو.
ليس المهم عند شقيق الرئيس في فلوريدا أسماء «روتشيلد» و«بارسون» و«باتريك» و«ستانلي» ومدى علاقتها بالإسلام والمسلمين وانما المهم أنها خلية نائمة اخترقها عميل في «اف. بي. آي» وحرضها على أعمال العنف ووعدها الاتصال بـ «القاعدة» وعندما اقتنع هؤلاء المساكين بحكاياته أخبر عنهم الشرطة التي اعتقلتهم بتهم نجح عميل المخابرات في جرجرتهم إليها. ليس المهم أن تكون التهمة صحيحة أو مختلقة، المهم أن تستمر اللعبة الأميركية إلى نهاياتها المرسومة سواء كان «باتريك» و«ستانلي» و«ناديمار» و«نارسل» و«لنفلستون» من أمة الإسلام أم كان عميل «اف. بي. اي» من تنظيم «القاعدة». المهم أيضاً أن يتابع المواطن المتلقي صور «المؤامرة» من على شاشات التلفزة حتى لو كان المتهمون آخر من يعلم بخفاياها وخلفياتها. إنها لعبة أمم، أليس كذلك
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1389 - الأحد 25 يونيو 2006م الموافق 28 جمادى الأولى 1427هـ