أضحى من الثابت أن أبو مصعب الزرقاوي، ما كان ليمارس فعل الموت، وينصهر في دموية انشغالاته وعبثية تخطيطاته التي تورد الهلاك للبشر على مدى ثلاث سنوات عجاف عاث فيها تفجيراً وقتلاً، تاركاً العراقيين يتسولون الأمن، لكن في ضوء ما تظهره الحوادث في المشهد العراقي البالغ القسوة، أين هو الأمن؟ هل أسهمت عجوزنا القابعة في أم الدنيا، المثخنة بالمشكلات البينية منذ ما ينيف على ستين عاماً في توفيره، وهي التي وجدت أصلاً لتكون عوناً على توفيره في حال بمثل الحال العراقية، إذ تبعثرت الدولة وساح شعارها «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، بفعل حرارة الرغبة في الانعتاق والتحرر من وهم حبس فيه حزب البعث الشعب العراقي وارتكب في حقه أسوأ الممارسات الدكتاتورية، ويمرر عبرها سياسات أمسى الشعب العراقي عاري الأمن الاجتماعي والاقتصادي ما أرسى معه وضعا نشهد هشاشة مرتكزه الاجتماعي في هذا البغض الطائفي البيان والعنف الناتج عنه.
وهل أن الجامعة العربية مهيأة حقاً لفعل دور ايجابي يوقف هذا العنف غير المسبوق، والقتل المجاني؟ لو تستطيع فعلت، لكنها لا تستطيع، وعليه فلنترك الفرصة للعراقيين يبحثون لأنفسهم عن خلاص، علهم يجدونه على أرصفة التضامن العربي الشعبي أو على قارعة طريق الوحدة العربية التي ملأت مفرداتها مقرراتنا الدراسية وأرهقت عقولنا الغضة، آنذاك، بمرورها السريع، من دون أن تترك لها أثرا.
القتل هو الفعل الوحيد الذي استمر الزرقاوي منذ سقوط النظام العراقي وحتى لحظة قتله من دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل على توقفه، من دون أن يغير في طريقة أو وسيلة قتله للعراقيين، واستمر على المنوال ذاته، خطفا، وذبحا، وتفجيرا في مأتم أو مسجد، أو في مكان للعمل، كيفما اتفق. لم يترك مجالا للفعل الطيب إلا وترك فيه أثرا لبصمة الدم. أتساءل: لو لم يكن يحصل على دعم معنوي جارف ينهمر على مسامعه عبر الفضائيات، ودعم مادي بدا واضحا وهو يحترق في شكل كرات نار ملتهبة تتفجر في أجساد العراقيين، أطفالا وشيوخا ونساء... هل كان سيتمادى في فعله لولا ذلك الدعم؟
بعضهم يوجد علاقة بين فرح العراقيين بمقتل الزرقاوي، وفرح الإسرائيليين للسبب ذاته، فأين العلاقة؟! هل كان يجب علينا تأييد الزرقاوي لنحظى بشرف إغضاب «إسرائيل»؟! أين المنطق في ذلك؟
لم نتفق على تعريف للإرهاب، وهذا مقبول، لكني أعجب من اختلافنا على أفعال الزرقاوي، التي تجهر بالعداء لكل داعمي الحكومة العراقية في العموم، وللشيعة على وجه أخص، وذلك من خلال مداومة العمل على تعميق الانقسام الطائفي والإفتاء بخروج الشيعة من الملة والدين... وهل مؤيدوه فعلا على طريقه ماضون وفي عدائهم للشعب العراقي سائرون؟ لماذا؟ وهل اختلافنا بشأن تحديد معنى الإرهاب دليل عافية؟
أشك في ذلك، لأن مساً من عتهٍ يخترق تفكيرنا. في تداعيات الكوميديا السوداء بإسباق أو إلحاق اسم الزرقاوي بالشهيد أكاد أسمع البعض على خلفية قتله يقول «إن مات الزرقاوي فكلنا زرقاوي»، في محاكاة تتصف بالجسارة لقول عملاق العرب وبطلها القومي جمال عبدالناصر في خطاب التنحي بعد نكسة يونيو/ حزيران العام ، إذ قال ما معناه: «إن مات جمال فكلكم جمال». فما الذي يريد المدافعون عن الزرقاوي قوله؟ وكيف لهم تقرير أن الزرقاوي «شهيد» (وبعضهم يداري مشاعر العراقيين ويلتف على كلمة شهيد باستخدامه كلمة الراحل!) بعد أن ثبت بالدليل القاطع انه قاتل، تشهد على قيامه بالقتل وأفعاله المشينة أمهات العراقيين والثكالى منهن؟ ووفق أي معيار تقرر ذلك؟ كان ولم يزل الكثيرون ممن يدافعون عن الزرقاوي، وأهمهم، في ظني، أولئك الذين يقذفون بأطنان من الأحبار تزف بطولات زائفة عبر أخبار وتعليقات تدافع عن رأي يقول إن الزرقاوي صناعة أميركية، لجهة نكران وجوده الحقيقي والدفع باتجاه تمويه واقع قائم، إمعانا في استرخاص القتل ومجانية الذبح وتسجيله ضد الاحتلال.
لا نسوغ للاحتلال... الاحتلال حال بغيضة، وعدم مقاومته تسليم بدونية الذات وسقوط حضاري مدو، ولكن الزرقاوي لم يكن بحال، أفضل منه. أضفى مقتل الزرقاوي انكسارا لموجة الحزن التي طالت في المشهد العراقي ليعيد، لبعض حين، شيئا من أمل في تحسن الوضع الأمني، لم يلبث أن تبخر على وقع الانفجارات ذاتها والدم المسكوب ذبحا عينه.
أبومصعب الزرقاوي حال عربية عامة من الصعب نكرانها أو التنكر لها، لأن جذورها ضاربة في عمق كل بيت، وذلك ناتج غرس «ثوري»، قومي إسلامي، نتجرع نتائجه الكارثية ويلقي بتبعات تخلفه على الآخر، ويستولد من هذا الرأي تآمر ذلك الآخر على تراثه ومقدراته.
أبومصعب الزرقاوي سيراوح مكانه، خطأ، في المخيال العربي شخصية رديفة للمحرر طالما ظل قولنا المأثور «أنا وابن عمي على الغريب» فاعلا ومحركا لقوافل المشاعر الجياشة التي تقتفي أثر الموروث الذي نتعاطاه في صيغة عربية مهمة تقول «غرسوا فنأكل ونغرس ليأكلون»، بغض النظر عن حصيلة الغرس وجودته. فإلى متى سنظل محكومين بخيار العداء لأميركا وللغرب عموما؟ فكما أن الآخر محتاج لنا، فإننا، بالضرورة بحاجة إليه.
نحن، في الحقيقة، بحاجة ماسة إلى هدنة سلام، سلام مع النفس ومع الآخر، وكفانا شرور ما نختلق من أوهام، ومحاربة أعداء من صنعنا. ولنأخذ العبرة من الأمم الأخرى التي شقت طريقها باتجاه نجاحات محققة على كل صعيد، تاركينا، في زاويتنا العربية البالغة الخصوصية! نجتر مقولاتنا الموروثة وننسج وفقها تخيلات بخلق عالم خاص بنا وبديننا تحت زعم المحافظة على الثوابت والقيم من دون عناء كبير في إعادة النظر فيها احتكاما لمتغيرات الواقع المحلي والواقع الكوني. من منا في استطاعته أن يفصح عن وجهة نظره بزهو من دون أن يداخله هاجس باعتقاد بعضهم بتكفير وجهة النظر هذه التي يستحق جزاء عليها العقاب، وأي عقاب؟ انه الموت، ويالهول ما نرتكب من حماقات تقودنا لهكذا مآزق
العدد 1387 - الجمعة 23 يونيو 2006م الموافق 26 جمادى الأولى 1427هـ