في كل مرة يخرج فيها الرئيس الأميركي جورج بوش على الملأ ليحدث مستمعيه عن إيران وعن ملفها النووي يمني النفس بوجود «اجماع دولي» بشأن هذا الملف الاستراتيجي، واضعاً طهران امام خيارين: التخلي عن «طموحاتها» النووية وتالياً الانخراط في قائمة الدول المقبولة في المجتمع الدولي! أو مواجهة هذا المجتمع الذي حزم أمره لتوجيه رسالة قوية إلى إيران تبدأ بالعقوبات الاقتصادية وقد لا تنتهي إلا بالاطاحة بالنظام!
آخر مرة خرج فيها الرئيس الأميركي مكرراً ما أشير اليه أعلاه كانت لدى اجتماعه بالرئيس النمسوي والمجموعة الأوروبية في فيينا وهو يرد فيها على تصريحات أخيرة للرئيس أحمدي نجاد يحذره فيها من «المماطلة» و«التسويف» حتى نهاية أغسطس/ آب، مطالباً اياه بالاسراع في الرد على مقترحات الرزمة الأوروبية «لأن أمامه أسابيع وليس أشهراً»!
لكن لا أحد في طهران يأخذ تصريحات بوش على محمل الجد ناهيك عن محمل الواقع أصلاً! لماذا؟
أولاً: لأن طهران متيقنة كما الكثير من العواصم الدولية المعنية بهذا الملف الاستراتيجي بأنه لا وجود لما يسمى بـ «الاجماع الدولي» بشأن ملفها... اللهم الا إذا كان المقصود بهذا الاجماع هو عدم رغبة العالم بولادة قنبلة نووية إيرانية، وطهران هنا في مقدمة المجمعين على مثل هذا الأمر، بل هي من طليعة المطالبين بإخلاء منطقة الشرق الأوسط كلها من أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي فإنه فيما عدا ذلك فإن العالم كله لديه «اجماع» آخر يخالف رغبة البعض في واشنطن المحفزة إسرائيلياً في اللجوء الى خيار المواجهة والحرب على طهران! وشتان بين «الاجماع» الأول و«الاجماع» الثاني!
ثانياً: لأن طهران تعتقد أن موضوعاً خطيراً مثل ملفها النووي في ظل مجموع الظروف الإقليمية والدولية المحيطة والمتصلة به لا يمكن تحقيق الاجماع الدولي الحقيقي بشأنه إلاّ على طاولة الحوار والتفاهم والتفاوض الهادئ والطويل النفس والبعيد كل البعد عن أجواء التهديد واملاء القرارات! وتحديد المواعيد «المقدسة»! والشروط المسبقة!
وهنا ثمة من يعتقد من المحللين المتابعين للشأن الإيراني الداخلي وصيرورة صناعة القرار في طهران أن أحمدي نجاد عندما قال بالشهرين إنما اراد بذلك «كسر» ذلك «المقدس» من المواعيد السياسية الأميركية أكثر من أي شيء آخر يتعلق بالزمن الطبيعي!
بمعنى آخر فإن طهران ارادت من خلال تصريحات نجاد أن تقول لواشنطن إن قرار «التفاهم» مع طهران أو عدمه لا يؤخذ في اجتماع الدول الصناعية الثماني المقرر في روسيا الشهر المقبل تحت وطأة «الاجماع الدولي» الذي تريد واشنطن «صناعته» هناك!
وإن مثل هذا الملف ينبغي أن تكون له مرجعية مختلفة تماماً، لا يجوز أن تكون بعيدة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإن اريد الاستعانة بالأطر الأخرى من المفاوضات فإن طهران لا يجوز أن تغيب بتاتاً.
وبالتالي إذا كان ثمة جدية في البحث عن حلول «تسووية» فليكن الحوار الشامل والمتكافئ بين طهران وواشنطن في صدر الخيارات المتاحة.
لكن بين «أسابيع» بوش و«اشهر» نجاد ثمة نجوة عمرها عاماً لابد من ردمها أولاً.
ذلك أن طهران الحالية ليست هي طهران العام م، حتى يقرر «الحلفاء» الآن الزحف عليها لأهمية نفطها الاستراتيجي وموقعها الجيو سياسي والجيو استراتيجي الفريد في الحرب على «الإرهاب» كما حصل آنذاك من أجل هزيمة دول المحور!
ففي ذلك الزمان كانت قرارات طهران تؤخذ في ثنايا وسرايا المحاور والاستقطابات والتوازنات الدولية. بينما اليوم لا احد في طهران مهما علا منصبه أو مقامه يستطيع أن يقرر نيابة عن الشعب الإيراني من دون أن يأخذ في الاعتبار «المزاج العام» لحركة التحرر والإصلاح الإيرانية المتصلة بالـ سنة الماضية.
وحدهم الساذجون يستطيعون المراهنة على سياق مختلف عن السياق المذكور أعلاه. فما لم تستطع أن تقدمه «جمهورية رفسنجاني» أو «جمهورية خاتمي» الإصلاحيتين المعتدلتين، لن تستطيع بالتأكيد أن تمنحه «جمهورية خامنه أي» الأصولية الطامحة لدور إقليمي بل ودولي لا يقبل أقل من الاعتراف النهائي بتحولات التاريخ والجغرافيا السياسية الإيرانيين في الـ سنة الماضية.
وما جاء على لسان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية قبل أيام عندما وصف «امتلاك الطاقة النووية بأنه أهم من اكتشاف النفط في إيران» انما يوضح مثل تلك الوقائع ويبلور مثل ذلك الطموح!
ثمة إجماع إيراني قومي يتبلور أو في طريقه إلى التبلور مفاده بأن بلادهم بلغت أو تكاد الاقتراب من بلوغ مرحلة التطابق بين المطالبات التاريخية للشعب بالحرية والاستقلال والتقدم وبين هوية البلاد التاريخية الوطنية والدينية. وبالتالي فإنه ليس باستطاعة أحد أي كان اتخاذ أي قرار يظهر وكأنه «من وحي الخارج»! مهما كانت مبرراته المادية دامغة وقوية!
وعليه، فإن رزمة الحوافز المقترحة على طهران لن تلقى قبول أو تبني أي طرف إيراني أياً تكن «مغرياتها» المادية والمعنوية ما لم تجد «تبريراتها» أو «تطابقاتها» الداخلية مع منظومة الإجماع القومي على الاستقلال والحرية والتقدم المتطابقة مع الهوية الوطنية والدينية للمجتمع الإيراني.
إن «البون الشاسع» بين «أسابيع» جورج بوش و«أشهر» أحمدي نجاد يكمن هنا تحديداً، أي في هذا الفشل الأميركي المتكرر في ادراك ما حصل في إيران على مدى الـ عاماً الماضية.
فقد تغضب طبقات من الشعب الإيراني على حاكمها وقد تلجأ إلى أساليب متعددة للاعراب عن عدم رضاها على سلوكيات هذا الحاكم أو ذاك، وقد تعرب عن تململها من الخيار الاجتماعي أو الاقتصادي أو حتى السياسي، لكنها سرعان ما ستجدها ملتحمة ومتصلة ومتواصلة حتى مع ذلك الحاكم الغاضبة عليه أو المتململة من خياراته عندما يتعلق الأمر بالهوية التاريخية لبلادها أو بسؤددها ومجدها القومي وكينونتها.
والملف النووي الإيراني بات جزءاً لا يتجزأ من هذا المجد والسؤدد وتلك الكينونة والهوية التاريخية، وقد يكون ذلك هو أحد الأسباب الذي دفع القيادة الإيرانية العليا إلى أن تقول إنه أهم من اكتشاف النفط على رغم كل أهمية وقيمة مثل ذلك الاكتشاف التاريخي العظيم.
- قد تغضب طبقات من الشعب الإيراني على سياسات بلادها إلا أنها تتلاحم مع الحكم عندما يتعلق الأمر بالهوية التاريخية والمجد القومي.
- الفرق بين أسابيع بوش وأشهر أحمدي نجاد يعكس الفشل الأميركي في إدراك ما حصل في إيران خلال عاماً
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1387 - الجمعة 23 يونيو 2006م الموافق 26 جمادى الأولى 1427هـ