وصف الرئيس السابق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) علي ناصر محمد خطوة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح برفض الترشح لولاية رئاسية جديدة بالجريئة والشجاعة. وتوقع الرئيس السابق الذي طار بدوره عن مقعد الرئاسة بانقلاب عسكري أدى إلى اندلاع حرب «قبائل ماركسية» في عدن أن يدخل الرئيس صالح «التاريخ من أوسع أبوابه» في حال تمسك بقراره.
القرار فعلاً تاريخي وغريب من نوعه في منطقة لاتزال تمر في مرحلة ملتبسة بين أنماط متعارضة من المعاش والمسلكيات. فمثل هذه القرارات تحصل عادة في بلدان أنجزت سلسلة من الخطوات المتقدمة على مستويات مختلفة حققت بها الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي الذي تقوده مؤسسات ثابتة. هذا الأمر لم يحصل في اليمن على رغم نجاحه في توحيد الدولة في شقيها الشمالي والجنوبي... الا ان الدولة لاتزال تعكس فسيفساء من التوازنات القبلية والمناطقية الأمر الذي ادى إلى نهوض حركات انشقاقية متلونة تجمع ما بين الحزب «الحديث» والقبيلة.
قرار الرئيس اليمني يعتبر في منظور أنظمة «الحداثات» المتخلفة في وعيها السياسي من المؤشرات السلبية التي ستحرج الكثير من الأنماط المتشابهة والموجودة بكثرة في منطقتنا العربية/ الإسلامية العاثرة في نموها وتقدمها. فهذه الأنظمة ستجد نفسها في موقع لا تحسد عليه لأنها في حال تمسك الرئيس صالح بقراره ستتعرض لأسئلة لا تريد سماعها.
حتى الآن لايزال موقف الرئيس اليمني الذي مضى على وجوده في السلطة قرابة سنة مجرد قرار ينتظر بعض الوقت لاكتمال الجوانب الغامضة منه. وحتى تتضح عناصر الصورة والبواعث التي أملت عليه اتخاذ مثل هذا القرار لابد من الاشارة إلى ان وظيفة هذه الانظمة الجمهورية الديمقراطية الشعبية الجماهيرية (أوالاشتراكية) العربية (أوالإسلامية) البرلمانية (أوالدستورية) الوحدوية (أوالانفصالية) التقدمية (أوالرجعية) استنفدت اغراضها التاريخية ووصلت في مجموعها العام إلى مأزق لم يعد بامكانها مواصلة المشوار الذي بدأته من طريق الانقلاب منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي. فالمسألة قاربت الفضيحة السياسية. وكل الذرائع التي يمكن ان تقدمها أو تبرر بها تمسكها بالسلطة لم تعد تنفع نظراً إلى انكشافها التاريخي أمام تحولات عامة ومتغيرات دولية تحيط بها.
كل دول «العالم الثالث» تغيرت تقريباً ولاتزال بعض الانظمة العربية مصرة على أن وظيفتها ودورها وموقعها لم يطرأ عليه أي مستجد. أميركا اللاتينية مثلاً مرت في حالات مشابهة للدول العربية في القرن الماضي وتعرضت دولها لانقلابات عسكرية اطاحت بالبرلمانات وسحقت الديمقراطيات النامية وسحلت المعارضة (بدعم المخابرات الأميركية وتحريضها وتمويلها) لكنها الآن عادت من جديد لاستئناف حياة سياسية انقطعت بالقوة. افريقيا (تحت خط الصحراء الكبرى) مرت ايضاً بظروف مشابهة وحصلت فيها عشرات الانقلابات العسكرية والحروب الاهلية (القبلية) والصراعات الدموية (الحزبية) وأخذت الآن تبحث عن وسيلة جديدة غير السطو المسلح لادارة السلطة ضمن صيغة تفاهمات توفق بين المصالح.
قرار الرئيس صالح يعتبر خطوة نوعية في بلدان لاتزال فيها القبيلة تسيطر على السياسة، والدولة هي مجرد راعٍ لتوازنات تؤمن الحد الأدنى من الاستقرار المضبوط بشروط مراكز القوى المناطقية. ولذلك يتوقع في حال تمسكه به ان يكون له صداه الايجابي في الكثير من المناطق العربية؛ وخصوصاً تلك التي تسودها أنظمة مشابهة.
خطوة الرئيس اليمني ليست جديدة لكنها نوعية وقليلة الحصول في مناطق تعودت على ثقافة السطو على الدولة، وتأسست عقليتها السياسية في مناخات تتحكم بها ذهنية الانقلاب وحبك المؤامرات. ومثل هذه الخطوة نادرة الوجود. فهي مثلاً حصلت قبل أكثر من خمسين سنة في مصر حين تنازل محمد نجيب عن الرئاسة بضغط من مجلس قيادة الثورة حرصاً على الاستقرار ومنعاً لاقتتال «الرفاق والاخوة». وهي أيضاً حصلت في الجزائر حين وافق الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة بضغط من المجموعة العسكرية التي رفضت الانتخابات بعد نجاح التيار الإسلامي في السيطرة على البلديات والبرلمان. وهي أيضاً وقعت في لبنان حين رفض الرئيس فؤاد شهاب تجديد ولايته حتى لا يكرس عقلية التمديد والتوريث في بلد يدّعي أنه يمثل نموذجاً مخالفاً لذاك السائد في المحيط.
هناك حالات نادرة تعد على أصابع اليد حصلت في المنطقة وتقارب قليلاً هذا القرار «الجريء والشجاع» كما وصفه الرئيس علي ناصر محمد. الا ان خطوة الرئيس صالح تختلف إلى حد معين عن تلك التي اتخذها الرؤساء في مصر والجزائر ولبنان، فهي جاءت بارادة ذاتية ومن دون ضغوط. وهذا يعني ان الخطوة متميزة وتشبه كثيراً تلك التي اتخذها الرئيس محمد سوار الذهب في السودان.
سوار الذهب هو مثال نوعي عن نموذج عربي (جميل ونبيل) تتمناه الجماهير المسكينة والمستضعفة الممسوحة على المدى الجغرافي من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق. فهل يتحول الرئيس صالح إلى نموذج آخر وجديد في نوعيته أم تعود وتنتصر ذهنية الانقلاب وثقافة السطو؟
المسألة تحتاج إلى قراءة لأنها أصلاً تتصل بنمط الاجتماع ومفهوم الدولة المعاصرة في المنطقة العربية. وهذا الشيء يتجاوز حدود قرار الرئيس في اعتبار أن معنى الرئاسة في منطقتنا أقرب إلى منطق التوريث القبلي (الجمهوري) وأبعد من فكرة التداول السياسي التي تتأسس عادة على توازنات المصلحة والقبول بالآخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1387 - الجمعة 23 يونيو 2006م الموافق 26 جمادى الأولى 1427هـ