يعيش المسلمون اليوم أوقاتا عصيبة. يواجهون فيها التضييق والملاحقة والاضطهاد، وحروب إبادة وحقداً صليبياً. ففي بحثها عن الغرائز البدائية وعادات التأثر البائدة، تبدو القوة الأعظم في عالم اليوم عارية تماما حتى من ورقة التين التي تستر عوراتها الأخلاقية. ومن التأثر بعدو قديم، تقوم هذه القوة بالقضاء على جميع مثل الاستنارة والنهضة وذبحها بما في ذلك المداهنات الكلامية المعتادة في حديث البشر. ومن المفارقة أن الضحية الأولى لسعي الرجل العلماني من أجل مجده الشخصي كانت العقيدة المسيحية. وخاض المعركة باسم الإنسانية والاستنارة.
وبالنسبة إلينا فإن هذه أوقات اضمحلال ووهن، ولطم الصدور، أوقات عنف أعمى وتضحية بالذات. ولكن أكثر ما يرثى له أننا نحن أنفسنا الذين حولنا هذه الأوقات إلى أوقات خواء وجمود روحي ووهن وحرمان أخلاقي. فبينما نترنح تحت وطأة كاسح من قوى شريرة، تتسلط علينا شياطين الهدم ودعاة الفساد، يبدو أننا نتخلى عن التزامنا الأساسي تجاه الإنسانية لصالح سياسات انهزامية وانتحارية ذات عائد سريع.
ثم هناك خيانة مثقفينا وعلمائنا. فلو أجرينا محاكمة افتراضية لقيم الحضارة وحقوق الإنسان فإن الجدل بشأن سبب وجود الإسلام وهو ما يفخر به من نصبوا أنفسهم أوصياء على الفقه يدان في هذه المحاكمة لعدم اشتماله على رؤية خلقية تتسامى على المصالح الذاتية الضيقة لمجتمع سياسي (هو الأمة في نظر منتقدينا)، لو أجرينا هذه المحاكمة، فإننا نرتد مذعورين لهول مشهد «عدالة المنتصر هذا». إن الإسلام الرسمي في عرضه رسالة الإسلام على العالم لا يعرض سوى بقدر محدود للغاية لهذه الرؤية المتسامية والخلقية وثيقة الصلة بالرسالة الإسلامية. إن المنتفعين من نظامنا التاريخي والذين جردتهم هجمة الحداثة من كل سلطة ونفوذ إنما يثيرون في الأذهان تلك الصورة البالية التي صار إليها الإسلام في عصرنا الحالي. إن الإسلام من وجهة نظرهم، لا يعدو كونه لحظة تاريخية جامدة أو ثقافة قطرية أكثر منه عقيدة كونية.
إن الإنسانية الإسلامية موضوع تم - للأسف - تجاهله تماماً، وحجبت رسالة الإسلام بفعل طغيان مادية الحداثة، وجمود الالتزام بالنصوص الدينية الإسلامية من دون إعمال أي قدر من العقل. وما يزيد من مشقة البحث في موضوع مثل هذا غياب دراسات سليمة ومتوازنة، والكم الهائل من الدعاية الدينية المسيّسة. وما سنطالعه سويا لا يعدو كونه محاولة استكشافية في إطار رحلة البحث هذه.
ومع الوضع في الاعتبار تلك الازدواجية الأخلاقية للقيم المسيحية التي ترفعها النظم السياسية العلمانية، والنظرة التقليدية الضيقة لعلماء الدين المسلمين، يبدو لزاما علينا أن نؤكد من جديد على القيمة المركزية للتسامي في النظرة الإسلامية للأشياء. فالإسلام من دون إيمان راسخ بالغيب وكما يتجسد ذلك في شهادة لا إله إلا الله، لن يكون إسلاما بالمرة. ولذلك فمن أجل قدسية الإسلام، والضرورة التاريخية لوجود المجتمع المسلم، فإن الإسلام لا يتلاقى مع مثل هذا الطرح، وكذلك المجتمع التاريخي، وفي الواقع عالم التاريخ ذاته والتركيز النهائي لولاء المسلمين. ليس هناك نظير للمبدأ العلماني «وطني... على حق كان أو على باطل» في المثل الإسلامية. إن ولاء المسلمين لأي نظام تاريخي، وسياسي بحكم الظروف، يظل دائما مشروطا بمراعاة الالتزام «بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
إن المفهوم الأساسي للإيمان (الإسلام يعني الانقياد والاستسلام لله) إنما يقتضي ضمنا تساميا من جانب الإنسان عبر الدهور وهو ما يتجسد في الفطرة. لذلك فإن الإنسانية وليس الأمة أو الدولة ضرورية للرؤية الإسلامية. ومهما أصرت السياسات المنبثقة عن الوجود التاريخي للمجتمع المسلم على عدم التخلي عن تحقيق هدف الوحدة الإنساني، فإن هذا الهدف قد لا يتحقق أبداً، وتنكفئ هذه السياسات على ذاتها وتذوي وتصبح فريسة لمنطق تأليه الذات الذي هو جوهر الايديولوجيات العلمانية. إن الدين وليس الدولة هو الذي يشكل مسيرة المسلمين نحو الإنسانية. وفي ضوء هذه القيمة الإسلامية يؤكد القرآن الكريم بشكل قطعي على «وحدة تنوع» الجنس البشري، ويجعل الأفضلية في كل هذا للجانب الخلقي على أي جانب آخر من جوانب الفخر والتفاضل بين البشر. يقول تعالى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: )».
وكما يليق بالنظرة العالمية المتسامية للقرآن، فإن المخاطب بآياته هو الإنسان في كل مكان من هذا الكون وعبر الأزمان ومنذ بدء الخليقة.
وحتى الميثاق الذي أخذه الله على الإنسان كان بدائيا. وصُكَّ قبل بدء الزمن. إن الإنسان إنما يولد بعد أن يكون قد اقر بالربوبية لله. يقول تعالى «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا» (الأعراف: ).
إن النظرة القرآنية للإنسان متسامية من دون أن تكون متعارضة مع التاريخ، أو مناوئة للحقائق التاريخية. فالإنسان مثله مثل أي مخلوق آخر سواء كان كائنا حيا أو جمادا إنما هو من خلق الله. لكن مكانته متميزة استنادا إلى عاملين: الأول وجودي لأن الله سبحانه وتعالى نفخ فيه من روحه. والثاني أخلاقي، لأنه خليفة الله على الأرض. ومن خلال قصة خلق آدم، يشير القرآن إلى ما يمكن اعتباره من وجهة نظر الإنسان أهم قصة خلق على الإطلاق. فآدم بحسب الرواية القرآنية يمكن تصوره بأوصاف سامية وأخرى أرضية. فهو الإنسان الأول والأبدي، وهو أيضاً الإنسان الفرد الذي تتعاقب به الأجيال. إن «سمو» ادم الذي ينعكس فيما أوتي من نعمة العقل والذكاء، وما وهبه من قدرة عقلية للحكم على الأشياء إنما ينبغي النظر إليه في إطار وجوده مع مبدأ «الأرضية»، ومهمته التاريخية. فقد قبل آدم، بمحض اختياره، تحدي إقامة نظام أخلاقي على الأرض، وهو ما وصفه القرآن «بالأمانة».
ولا يجب الخلط هنا بين المنظور السامي للإنسان، والطبيعة الأرضية له بالمعنى الحديث للعلم، أو اختزال الإنسان في مجرد ذرات وجينات.
وطبعاً فإن من الجائز أن نتحدث عن الإنسان بوصفه كائنا بيولوجيا خالصا إذ إن القرآن الكريم ذاته يوظف الصور البيولوجية والاستعارية، ولكنه لا يمكن التأمل في الطبيعة الروحية والخلقية لخلق آدم ومهمته وربما فهمها، إلا في إطار «النموذج الأصلي» للتسامي.
إن آدم أبا البشر إنما هو أيضا في الإسلام أول الأنبياء، وهي الحقيقة التي تظهر أن الإنسان طيلة مقامه المؤقت على الأرض لم يكن أبدا من دون توجيه إلهي. والشيء المهم هنا هو أنه عندما يتحدث القرآن عن قصص السابقين رجالا ونساء وخصوصاً قصص الأنبياء، فإنه يفعل ذلك من دون أدنى إشارة إلى التسلسل الزمني، ولا يفرق بأي شكل بين الأنبياء السابقين. إن وحدة وهوية الإرشاد والهداية الإلهية التي خص الله بها جميع الأنبياء بلا استثناء وحملوها هم إلى الناس إنما تجعل جميع أوجه التفرقة التاريخية والأخلاقية والجغرافية أمراً لا داعي له. ها نحن إذاً أمام رؤية متسامية أخرى، تتعارض مع الرؤى الطائفية للإنسانية بوصفها «دولا ذات سيادة». إنها تحطم جميع أصنام الفخر المذهبي والبنية الثقافية التاريخية والتفرد الديني. والشيء الاهم هنا هو أن التصنيف القرآني لآدم (ع) بوصفه خليفة لله على الأرض إنما هو تصنيف أخلاقي بالأساس سواء في المجال أو الغاية. إنه يقدم مفهوما قيميا يصل بين التسامي الروحي وبين الأرضية. وهو ما يرأب الهوة بين الواقع واشتراطات الشرع، أو بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، من دون أن يستدعي ذلك إلى الذهن لغة التجسيد الوجودية. لقد انكر على الإنسان خاصية «السيادة»، لكنه منح بدلا من ذلك الحرية بمعناها الشامل، والسلطة الملكية، والمسئولية «الدينية» وهذه جميعا من مميزات كونه خليفة لله على الأرض. وبالمعنى الأخلاقي، فإن الأمر شبيه بحرمان الإنسان من أن يكون «معيارا لذاته»، ومصدرا لقيمة الخاصة.
إن الرؤية القرآنية لآدم كخليفة على الأرض إنما تقوم على القيم الإنسانية بالأساس من دون غطرسة الإنسانية الضالة التي هي في رأي منتقدي الحداثة مصدر هلاكها وخرابها.
وعلى رغم عدم وجود علاقة وجودية بين الله وبين آدم بالمفهوم المسيحي للتجسيد، فإن آدم بالمفهوم القرآني يشبه في بعض الجوانب الوظيفية عيسى بن مريم في كونه همزة الوصل بين التسامي الروحي والأرضية البشرية باستثناء أن دور آدم فقط وكما أسلفنا يمكن فهمه في الإطار الأخلاقي. ويشار إلى عيسى (ع) في علم اللاهوت المسيحي على أنه «آدم الثاني» ليخلص البشرية من الخطيئة التي اقترفها آدم الأول. ويبدو أنه نظراً إلى عدم اتفاق الإسلام مع تلك الرؤية من ارتكاب آدم الخطيئة، (أو على الأقل عدم الاعتراف بأنها خطيئة بالمعنى المسيحي لها) فإن آدم (ع) يظل مناط الوظائف والمهمات التي يوكلها المسيحيون إلى عيسى (ع).
ولا عجب إذاً في أن أصبحت علاقة كل فرد من أفراد الجنس البشري بآدم، لا في كونها حقيقة حيوية من حيث كونه من نسل آدم فحسب، بل في الالتزام الأخلاقي المترتب على الميثاق الذي اخذه الله على آدم، أن تصبح هذه العلاقة رمزاً لإنسانية الإسلام.
قال سارتر يوما ما وهو يدافع، صارخا، عن مبادئه الفلسفية «إن الوجودية هي الإنسانية». وربما يشكك المؤمن طبعاً في صحة ما ذهب إليه سارتر والذي ينبع من عمق إيمانه بمبادئه الفلسفية والميتافيزيقية الإلحادية. وفي الواقع فإنه بالنسبة إلى المسلم فإن أي رؤية للإنسان، وأي تماثل مع المثل الأخلاقية والفلسفية للإنسانية يظلان مقبولين ظاهرا طالما لم يقيما الإنسان بمقارنته بالواقع الروحي المتسامي الذي هو أكبر من الإنسان نفسه. إن الاعتراف بخضوع الإنسان لقانون أخلاقي إنما يصك مفهوما أكثر شمولا وشرعية من المفهوم السائد في محيطنا السياسي ذي الإطار الضيق، وبه يتبدى واضحا وبشكل كامل مدى تنافر المفهوم الإسلامي للإنسان في كونه خليفة الله في الأرض، وبين مفهوم «السيادة» ذي الطبيعة العلمانية. إن الوعي الإسلامي الذي ينبثق من العقيدة لا يمكن أن يكون رهينة للنظام السياسي الإسلامي أو أي نظام سياسي، بالمفهوم العلماني لهذ
العدد 1386 - الخميس 22 يونيو 2006م الموافق 25 جمادى الأولى 1427هـ