يلاحظ أحياناً أن سبباً رئيسياً من أسباب صعوبة النزاع بين اليهود والمسلمين في الشرق الأوسط هو أن كلاً من الطرفين يعمل من خلال مجموعة من الفرضيات المتنافرة عن تاريخ النزاع.
اليهود يرون دولة «إسرائيل» على أنها نصر شعب نازح انتظر لمدة ألفي عام حتى يعود إلى وطنه. إذا كان العنف قد واكب هذه العودة فالسبب يعود فقط إلى أعمال العنف من قبل العرب. اليهود كانوا على استعداد للتوصل إلى تسوية سلمية مع جيرانهم العرب، الذين كانوا عدائيين تجاه كينونة يهودية ذات سيادة في الشرق الأوسط وأعلنوا الحرب ضدها منذ إنشائها.
المسلمون يرون دولة «إسرائيل» على أنها أسوأ مثال على الاستعمار الغربي، وعلى أنها جسم غريب تم غرسه في قلب الشرق الأوسط بهدف تكريس السيطرة الغريبة. أي عنف سببه فقط اليهود وحلفاؤهم الغربيون. اليهود تمكنوا من السيطرة على الأرض من خلال إخراج سكانها قسراً، ونجحوا في التمسك بها بدعم عسكري غربي.
ما تمت خسارته هو حقيقة أن كل من المسلمين واليهود لديهم أمور كثيرة مشتركة من حيث رؤيتهم لتاريخ بعضهم بعضاً. لكل مجتمع فهم لتاريخه أكثر اتساعاً مما يحدده النزاع، ونستطيع أن نكتب فهماً أعمق بطبيعة النزاع من خلال فهم تلك الأطر الأكثر اتساعاً.
أولاً، الطرف اليهودي. حتى يتسنى لنا فهم اليهودي المعاصر علينا أن نفهم ارتباطه بـ «إسرائيل». علينا أن نفهم أن الشعب اليهودي موجود منذ ثلاثة آلاف عام، وأنه خلال معظم تلك الفترة حكمتهم قوات أجنبية اضطهدتهم بشكل فاضح. خلال الحقبة التوراتية حكمت اليهود قوات أجنبية كثيراً ما اضطهدتهم. في العصور الوسطى عاشوا في أراض مسيحية وتعرضوا أحياناً للعنف.
في البلاد الإسلامية عومل اليهود بصورة أفضل كثيراً كأقلية تمتعت بالحماية. ولكنهم لم يكونوا أبداً على قدم المساواة مع المسلمين، وتعبّر الأدبيات اليهودية من العصور الوسطى عن مشاعر إذلال لعدم تمتع اليهود بقوة أو سلطة في بلاد المسلمين. حتى هناك تعرض اليهود أحياناً للعنف.
العنف الأكبر، طبعاً، جاء في أوروبا القرن العشرين مع المحرقة. اليهود أوجدوا دولة «إسرائيل» إيمانا منهم أن بإمكانهم أخيرا أن يعيشوا بأمن وكرامة. إنه مشروع لم ينجح سوى جزئيا. بالتأكيد، يتمتع اليهود الآن بالسيادة في وطنهم القديم ويملكون جيشا قويا. ولكن «إسرائيل» محاطة بعشرات الملايين من المسلمين، كثيرون منهم يعارضون وجودها. يجب أن يتذكر المرء أنه لا يوجد سوى مليون يهودي في العالم، حوالي نصفهم يعيشون في دولة «إسرائيل».
يستطيع المرء أن يناقش إذاً أن إنشاء دولة «إسرائيل» جعل اليهود أقل أمنا. الخوف الآن ليس فقط من العنف وإنما من الفناء، وهذا يفسر سبب المعاملة القاسية للفلسطينيين من قبل الإسرائيليين. اليهود حساسون من كل استثارة تهدد «إسرائيل» بسبب تاريخهم الذي جعلهم معرّضين. سيرون الفلسطينيين دائما على أنهم خطر وتهديد طالما أنهم يرتكبون أعمال عنف ضد الإسرائيليين ويرفضون الاعتراف بشرعية «إسرائيل» حتى لو لم يكن عندهم جيش. كل مراهق فلسطيني يحمل حجرا ليلقيه على إسرائيلي يراه اليهود في ضوء ذلك التاريخ الدامي كتهديد. يجب أن أؤكد هنا أن المهم هو الرؤية اليهودية للواقع وليس بالضرورة الواقع نفسه، لأن الرؤية هي التي تجعل الناس يتصرفون بغض النظر عما هو الواقع.
إذا تحولنا إلى الجانب الإسلامي نرى نمطا مماثلا بشكل كبير. الهوية المسلمة في الحقبة الحديثة شكلتها التجربة المرأة للسيطرة والإذلال الأجنبيين. خلال السنوات المائتين الماضية كان العالم الإسلامي ضحية للاستعمار الغربي. الكثير من الدول الإسلامية حصلت في النهاية على استقلالها، ولكن سلطة النفط تركت الغرب منغمسا بعمق في الشرق الأوسط. وجود دولة «إسرائيل» فهم في العالم الإسلامي على أنه أحد أعراض المحاولات الغربية المستمرة للسيطرة عليه.
مثلما هو الأمر مع اليهود، المسلمون تحولوا إلى العنف لأنهم رأوا أنه الأسلوب الوحيد لحماية أنفسهم. في غياب القوة العسكرية لجأ بعض المسلمين إلى الإرهاب كأسلوب وحيد نحو الاستقلال. هنا أيضاً جعلت الرؤية من الصعب التفريق بين نوعين من التهديد. صانعو السلام من الأميركيين الذين يذهبون إلى العراق يقتلون مثلهم مثل الجنود الأميركيين. مرة أخرى، الرؤى هي المهمة وليس بالضرورة الواقع.
جعل كل طرف يعترف برؤى الطرف الآخر ليس أمراً سهلا، دعك من التعاطف معها. بعض المسلمين الذين تحدثت معهم يحبطون من فكرة أن اليهود أو الإسرائيليين يشعرون أنهم عرضة للخطر ويناقشون بأن أي اقتراح له علاقة بذلك إنما هو استغلال للوضع مصمم لاستثارة الشفقة. فـ «إسرائيل» في نهاية المطاف تملك جيشا قويا واليهود لهم تأثير كبير أينما ذهبوا في العالم. بعض أصدقائي من اليهود يشعرون بالارتباك والإحباط كذلك من تحليلي. وهم يعترضون على أي تساؤل عن المعاناة اليهودية والمعاناة المسلمة، لأن العالم المسلم لم يمر أبدا بتجربة من نوع الاضطهاد الذي عانى منه اليهود.
ما يغيب على الطرفين هنا هو النقطة الحرجة، مرة أخرى، بأن ما له أهمية هو منظور كل منهما. يشعر كل طرف بصدق بحساسيته وتعرضه وإذلاله ويرى الطرف الآخر أكثر قوة، وهذا هو كل ما يهم. في نهاية المطاف، هذا المنظور هو الذي يشجع كل طرف على ارتكاب القتل. ولكن قد يكون هناك أمل في الحوار على أساس هذا المنظور. تشاركت مع مسلمين ويهود بهذا الطرح، وقد دهش بعضهم للنواحي المشتركة في تاريخهم، وخصوصاً المسلمين الشيعة الذين تضاعف شعورهم بالإذلال على أيدي الغرب من الإذلال الذي شعروا به على يدي المسلمين السنة عبر التاريخ. فهم في هذا المعرض يشتركون بالكثير مع اليهود.
نقطة أخرى: الذين يتجاوبون بإيجابية أكثر مع تفكيري هم رجال الدين المسلمون. من خلال تجربتي في الحوار بين الديانات خلال السنوات القليلة الماضية أصبح واضحا لي أن رجال الدين أفضل بكثير من السياسيين من حيث فتح قلوبهم والاشتراك بعواطفهم عندما يتكلمون عن أعدائهم. لذلك فهم أكثر احتمالا لأن يبحثوا مخاوفهم ومشاعرهم بالخوف ما يحفز مجتمعاتهم على العنف.
ما يعنيه ذلك لي هو أن الوقت قد حان لإعطاء رجال الدين دوراً أكثر مركزية في عملية السلام بين اليهود والمسلمين. منذ عقود طويلة تجادل السياسيون على الطرفين عن مكان رسم الحدود ولكنهم لم يتقدموا بنا قيد أنملة نحو السلام. رجال الدين استثنوا من هذه المفاوضات بسبب رؤية مفادها أن الدين هو المشكلة وليس الحل. ولكن تم ربط جزء كبير من النزاع بالدين بحث أصبح من الصعب تصور أية تسوية في غياب رجال الدين. قد يستطيع اليهود والمسلمون، بمساعدة رجال الدين، أن يتعاملوا مع القضايا الحقيقية بينهم حتى يتسنى لعلاقة جديدة أن تظهر إلى الوجود.
(ملاحظة: روبرت إيسن أستاذ الدين والدراسات اليهودية بجامعة جورج واشنطن، وشارك خلال سنوات عدة ماضية بعمق في حوار الديانات بين المسلمين واليهود. والمقال ينشر بالتعاون مع خدمة «كومون غراوند»
العدد 1386 - الخميس 22 يونيو 2006م الموافق 25 جمادى الأولى 1427هـ