منذ أن انطلق الإسلام في حركته الرسالية أعطى العقل قيمته الكبيرة، وحث الإنسان على البحث والتأمل في حركة الكون الواسعة، وأكد القيمة الكبيرة لإعمال العقل والتفكر في مقابل القيمة الأدنى للعمل المنطلق على أساس انفعالي، حتى وإن كان الهدف منه الوصول إلى ما فيه الخير، لأن ثمة فارقا كبيرا بين ما ينطلق من خطة وما ينطلق من انفعال أو من رد فعل في حسابات الرسالة الكبرى. ومن هنا جعل الإسلام مسألة التفكر أساسية، ليس على المستوى العلمي فحسب، بل حتى على مستوى الثمرة العبادية، فقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن «تفكر ساعة خير من عبادة سنة». كما حث القرآن الكريم على التفكر في الكون وفي ما خلق الله: «ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك» (آل عمران: ).
إن هذا الحث على إعمال الفكر، ومن ثم الانتقال من التأمل أو من الجانب الخيالي إلى التجربة العملية، هو الذي يفضي إلى إغناء الحركة الإنسانية بالبحوث والعطاءات التي من شأنها إغناء حركة التقدم الإنسانية على مختلف المستويات والانتقال إلى مرحلة التفاعل الحضاري والإبداعي في نطاقاتها الواسعة والممتدة، ومن هنا نظر الإسلام نظرة تقدير واحترام للعلماء والمبدعين في كل المجالات العلمية الإنسانية والطبيعية، لأن كل ما يخدم الإنسان ويخفف من معاناته وآلامه، يدخل في الإطار العام للعبادة ويمثل غاية كبرى من غايات الدين وواحداً من أهدافه السامية.
وإذا كانت للإسلام هذه النظرة التقديرية حيال الإبداع والمبدعين، فإن من الضروري أن نعمل على حماية المبدعين وتوفير كل الأجواء الملائمة لانطلاق حركة الإبداع ووصولها إلى مقصدها، فالمسألة تحتاج إلى تأكيد جملة من القضايا التي تساعد في حماية المبدعين والمفكرين، وأهمها يتمثل في ما يأتي:
أولاً: خلق فضاءات ومساحات للحرية الفكرية والعلمية، بما يسمح بانطلاق حركة الإبداع من دون عوائق اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو اقتصادية تضغط على المبدع وتقتل روح الإبداع عنده.
ثانياً: تأمين الحياة الكريمة للمبدعين ما يحد من تفشي ظاهرة هجرة العقول الموجودة في العالم العربي والإسلامي بشكل لافت، إذ يلجئ الفقر والعوز الكثير من علماء العرب والمسلمين للهجرة من بلادهم تماماً، كما قد تؤثر الظروف السياسية والأمنية في إبعادهم عن بلادهم، ما يؤدي إلى حرمان الأمة من عطاءاتهم وخدماتهم العظيمة، ويضاف ذلك إلى ما يقوم به العدو من محاولات لإبعاد العلماء أو اغتيال أصحاب العقول المبدعة والذين لابد للأمة من أن تعمل على حمايتهم بكل الوسائل.
ثالثاً: إن من الضروري العمل على تكريم المبدعين والتنويه بأسمائهم ورفعهم إلى المكان اللائق بهم، لا أن نحاصر عقولهم ونرجمهم بحجارة الجهل والخرافة، ومن المفروض أن نكرم هؤلاء في حياتهم وفي أوج عطائهم، لا أن نهملهم في حياتهم ثم نتغنى بأسمائهم وبنتاجهم بعد موتهم.
رابعاً: حماية الجهد الإبداعي من السطو والسرقة والاستغلال السيئ من خلال تفعيل القوانين ذات الصلة، والتي تؤكد حقوق الملكية الفكرية، والتي هي حقوق مشروعة، وفق رأينا الفقهي الاجتهادي.
إننا نرى أن الإسلام يؤكد حفظ حقوق الإنسان الفكرية كما يؤكد حقوقه المادية، فكما أن للإنسان حقوقه فيما ينتجه من خلال جهده الجسدي، فله أيضاً حقوقه وملكيته الخاصة فيما ينتجه من خلال جهده الفكري. فإذا كان الجهد الجسدي ينتج قيمة مالية في الأعمال الجسدية فللعقل والذهن حقوقهما فيما ينتجانه من أعمال لها قيمة مالية، وعليه فلا يجوز لنا أن ننكر حقوق الآخر، سواء أكانت مادية أم معنوية أو أن نعتدي عليها ونتصرف بها بعيداً عن معرفة وموافقة صاحب هذه الحقوق.
إننا نعتبر أنه يمكن للعقلاء أن يتوافقوا على مسألة الحقوق المالية فيما هي الملكية الفكرية، ما يجعل من المسألة حالاً قانونية لا يجوز الاعتداء عليها. لأن مالية الأشياء إنما تنشأ من الاعتبار العقلائي المبني على رغبات الناس ومصالحهم، ولأن مسألة حقوق الملكية تحتاج إلى نوع من التقنين العام الذي يأخذ في الاعتبار التطور العام لحركة العلوم والأبحاث الإنسانية وما تتعامل به الدول أو ما يؤسس له القانون العقلائي العام الذي يتبنى عليه العقلاء، لأن المسألة لابد أن تخضع للاجتهاد في الجانب القانوني الوضعي وفي الجانب الشرعي، ونحن نرى الاستفادة الشخصية مما ينتجه الآخر مسألة جائزة، ولكن الاستفادة منها على مستوى الاستثمار المالي العام غير جائزة، لأنها تدخل في نطاق المتاجرة والاستثمار في أموال ونتاج الآخرين، الأمر الذي يمثل اعتداءً على حقوق الأشخاص في تجارتهم وفي ممتلكاتهم الخاصة. وإذا كان التصرف فيما أبدعه الآخرون من دون إذنهم أو علمهم يمثل عملية سرقة واعتداء ونهب فما بالنا بالاعتداءات التي تطاول أمتنا، ليس على مستوى نهب ثرواتها وسرقة أملاكها فحسب، بل حتى مصادرة أوطانها وسفك دم شعبها وشيوخها وأطفالها ونسائها بدم بارد وأمام أعين العالم كله الذي لا يتحرك ضميره وخصوصاً إزاء ما يجري في فلسطين المحتلة.
إن الغرب بإداراته المتعددة يظل يلاحقنا ليحدثنا عن ضرورة احترام قوانين حماية الملكية حيال منتجاته واختراعاته، ولكننا أمة قد سلبت ملكيتها بالقوة عن جزء كبير من أرضها، وجاءت القرارات الدولية لتشرعن ما اغتصب منا من حقوق، وخصوصاً في فلسطين. ولكن العالم يقهقه أمام ما ترتكبه «إسرائيل» من مذابح بحق الفلسطينيين، ويعمل في الوقت نفسه على توفير كل الأجواء والخطط لتوطين الفلسطينيين خارج أرضهم والضغط على من هم بالداخل للقبول بما قرره جورج بوش وأولمرت حديثاً تحت عنوان «خطة الانطواء» التي تمهد السبيل لضياع القدس وإسقاط مقولة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة بشكل عملي.
إن علينا في لبنان أن نتنبه جيداً إلى ما يجري من حولنا وألا نطلق الكلمات جزافاً بشأن السلاح الفلسطيني وغيره بعيداً عن الخطة الأميركية الإسرائيلية، التي تسير وفق برامج معدة ومرسومة لجعل التوطين واحداً من الخيارات التي يلوح للبنان على هامشها بأنه سيحصل حال قبول التوطين على السمن والعسل، تماما كما يلوح للبعض من بعيد بأن الضغط السياسي والإعلامي في مسألة سلاح المقاومة يمكن أن يولد مناخات سياسية تمهد السبيل لمفاجآت اقتصادية سارة حيال لبنان. ولذلك، علينا التحديق ملياً بالعامل الإسرائيلي ورسم الخطط المضادة لخططه في الداخل، والاعتراف بأن «إسرائيل» استفادت كثيراً من الانقسامات اللبنانية الداخلية واستطاعت العبث في ساحاتنا الخلفية في الوقت الذي تعامى الكثيرون أو استبعدوها من كل ما أصاب ويصيب لبنان في المدة الأخيرة.
إن المطلوب من اللبنانيين ومن هم في موقع المسئولية تحديداً وخصوصاً بعد التطورات الأخيرة في لبنان أن يضعوا «إسرائيل» في أولويات سياستهم ومواقفهم للتعاطي معها كعدو استراتيجي لا أن ترسم الأولويات وفق المصالح الشخصية أو الذهنيات الضيقة التي لطالما عملت على إسقاط كل ما يدخل في النطاق الاستراتيجي لحساب مصالح ظرفية راهنة
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1386 - الخميس 22 يونيو 2006م الموافق 25 جمادى الأولى 1427هـ