اختيار الباشا محمد علي للطالب الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي إماماً لبعثة الطلبة التي أوفدها والي مصر للدراسة في فرنسا ليس مصادفة. فالاختيار جاء بتوصية من الشيخ حسن العطار الذي تربطه بالوالي علاقات مميزة ويعتبر الطهطاوي واحداً من تلامذته المخلصين.
الشيخ العطار هو من جيل الجبرتي وعاصر مثله حملة بونابرت على مصر واتصل به وكان يتردد على «المجمع العلمي» الذي أنشأه نابليون في القاهرة. وتميز العطار عن أقرانه من علماء وشيوخ الأزهر بدعواته المتكررة إلى ضرورة تحديث الدولة وإصلاح مناهج التعليم وادخال بعض المواد والعلوم على برامج الدراسة في الجامع الشريف. وحين جاء الباشا إلى مصر اتصل به العطار وتعاون معه، وهذا ما دفع بعض العلماء وشيوخ الأزهر إلى اتهام العطار بالمهادنة. وزادت المشكلة تعقيداً حين اصطدم الباشا برجال الدين وقادة العامة واخذ بمحاصرة الأزهر والحد من دوره في رسم السياسة.
هذا التعاون بين الباشا والشيخ برره العطار بأنه ضروري لمصلحة الأزهر وحماية له من تدخل الدولة في شئونه. فالشيخ العطار كان يرى أن مصلحة الأزهر تقضي بضرورة التفاهم مع الباشا والبحث عن صيغة ثنائية مشتركة تحد من إمكان مصادرة الدولة لموقع الجامع وتهميشه أو إعادة توظيفه خدمة لسياستها. فالمصالحة برأي العطار تعطي فسحة من الحرية تسمح للأزهر بلعب دوره المستقل وفي إطار ديني لا يزعج «الأمير الحديث».
وبسبب هذه الرؤية المبكرة لمخاطر الدولة «الحديثة» على مواقع المراجع الدينية نجح الشيخ في اقناع الباشا بالاتفاق على رسم خطوط واضحة تفصل السياسة عن الدين وتمنع رجال الدين من التدخل مباشرة في شئون الدولة مقابل منع رجال السياسة من التدخل في شئون الدين. وضمن هذه الصيغة التوفيقية اكتسب الشيخ ثقة الباشا وفي الآن حدَّ من طموحه في القضاء على سلطة الأزهر وموقعه التاريخي في حماية شخصية مصر والدفاع عن هويتها الإسلامية. وبسبب هذه الثقة المتبادلة تحول الشيخ العطار إلى النموذج الذي يبحث عنه «الأمير الحديث». فالأمير يخطط لبناء دولة مغايرة عن النموذج التقليدي. ومثل هذه الدولة الحديثة في مجتمع مسلم تحتاج إلى رجل دين حديث أو على الأقل عالم يتفهم حاجات الحكومة ومناوراتها واضطرارها للانفتاح على أوروبا لاكتساب المعرفة وأسس التقدم المعاصر.
شكل هذا الثنائي الجديد المركب من باشا معاصر وشيخ حديث خطوة في سياق تاريخي سيكون له أثره اللاحق في تكوين هيئة مختلفة لتلك الصورة التي عرفتها مصر في فترات سابقة. وهذه الصورة لن تكون ناجحة دائماً بسبب التدخلات الأجنبية التي أسهمت في تقويض كل محاولة لصوغ علاقة متقدمة بين الدين والدولة. كذلك لن تكون مستقيمة دائماً وستتعرض في كل فترة إلى نوع من التوترات والتقلبات بسبب انعدام التوازن بين دور الدولة الجديد وموقع الإسلام التقليدي في الحياة العامة للناس.
إذاً اختيار الباشا للطالب الأزهري الطهطاوي ليس مصادفة، فهو جاء بناء على توصية من الشيخ العطار الذي سيتولى لاحقاً مشيخة الأزهر في العام . وتوصية العطار واشارته إلى تلميذه ليكون على رأس أهم بعثة علمية يرسلها الباشا إلى فرنسا جاءت بناء على تفاهم بين الاستاذ الشيخ والتلميذ الشيخ. فالطهطاوي من تلامذته والأكثر قرباً منه وتفهماً لانفتاحه على الباشا. فالتلميذ كان على دراية بمخاوف استاذه من الباشا واحتمال انقلابه على الأزهر وإلغاء دوره في حال قرر العلماء الاستمرار في المواجهة. كذلك كان الطهطاوي من الجيل المنفتح على علوم الغرب ويؤيد تشجيع استاذه على ضرورة ادخال بعض المواد على برنامج تعليم الأزهر القديم. فالطهطاوي كان من الجيل الشاب وهو ولد في العام أي قبل أربع سنوات من قدوم الباشا إلى مصر.
جاء الطهطاوي الذي نشأ في طهطا (ناحية في محافظة سوهاج في الصعيد) من أسرة كريمة ينتمي نسب والده إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام). وبسبب هذا الموقع الأسري اشرف والده على تربيته الدينية منذ طفولته. وفي طهطا درس في الكتّاب واطلع على علوم الشرع وحفظ القرآن وتعلم الحساب واتصل بالعلماء والشيوخ واخذ منهم المتون وقرأ عليهم الفقه والنحو وغيرهما من حقول تربت عليها الأجيال. وحين بلغ الطهطاوي سن الشباب انتقل إلى القاهرة والتحق بالأزهر في العام لاستكمال علومه الدينية وتلقي الدروس في الحديث والفقه والتصوف والتفسير واللغة. وهناك تعرف الطهطاوي على أهم علماء عصره ولكنه تأثر بشخصية الشيخ العطار واقترب منه وناصره في مسألة ادخال علوم أخرى إلى برنامج الأزهر. فالعطار آنذاك استخدم صلته الوثيقة بالباشا وعقد العزم على الاستفادة من امكانات الدولة لتطوير خطته في تحديث موقع الجامع الشريف والمحافظة على دوره في تنوير طلبته وتوفير فرص النظر في علوم أخرى تتصل بالمعارف المعاصرة من تاريخ وجغرافيا وطب وهندسة وفلسفة.
إعجاب الطهطاوي بشخصية شيخه العطار أعطاه فرصة للاطلاع على علوم المنطق والفلك والكيمياء والطب والهندسة والموسيقى والشعر. وكل هذه المواد الاضافية أعطت الطهطاوي صفات ميزته عن جيله من الشيوخ الشباب المتخرجين من الأزهر.
تخرج الطهطاوي في العام وبدأ بالتدريس في الأزهر في لمدة عامين وبعدها انتقل إلى تولي وظيفة إمام الجيش الذي أسسه الباشا واستمر في هذا العمل حتى العام حين اختاره «الأمير الحديث» لوظيفة واعظ وإمام البعثة الطلابية إلى باريس بناء على تلك النصيحة.
اختيار الطهطاوي إذاً ليس مصادفة، فهو إلى جانب التوصية يعتبر من الرعيل الجديد وأقرب إلى مواصفات رجل الدين المعاصر الذي يميل الباشا إليه. فالأمير الحديث بحاجة إلى رجل دين حديث يساعده على استكمال مشروعه الإصلاحي، لذلك تقرب من هذا الصنف من رجال الدين وتحاشى ذاك الطاقم من الأزهريين الذين يعطلون عليه تصوراته وتطلعاته وطموحاته.
آنذاك لم تكن معركة نافارين البحرية قد وقعت ودمر فيها اسطول الباشا. فحتى تلك السنة كانت طموحات والي مصر معلقة في استمرار المراهنة على فرنسا ومساعدته في استكمال الخطوات التي وضعها لتطوير أجهزة الدولة وتحويل المؤسسات التقليدية إلى أدوات يستخدمها في سياسات التحديث. فالباشا لم يدرك حتى تلك المعركة أنه مستهدف وتحول إلى مشكلة، وأن دول الغرب تستغل الفرصة وتخطط لتوجيه ضربة استباقية لمشروعه واجهاض حركته الإصلاحية قبل أن يفوت الأوان.
وقع الاختيار إذاً على الطهطاوي لرئاسة البعثة الطلابية التي قرر الباشا ارسالها إلى فرنسا لدراسة علوم الإدارة والهندسة الحربية والكيمياء والطب والبيطرة وعلوم البحرية والعمارة والتعدين والجغرافيا واللغة الفرنسية والحساب والمساحة والرسم والتاريخ والمعارف الإنسانية المعاصرة.
لم يكن الطهطاوي من الطلبة وإنما وقع عليه الاختيار ليكون المرشد الروحي للبعثة. فهو ينتمي إلى أسرة دينية كريمة وتلقى علومه في الأزهر، والأهم من ذلك أنه يعتبر من المقربين إلى الشيخ العطار والمتفهمين لشخصية «الأمير الحديث» وحاجاته وطموحاته.
كان المطلوب من الشيخ الطهطاوي الاشراف الديني على البعثة التي تألفت من طالباً، وكان عليه ارشادهم وتولي امامتهم في الصلوات. ولكن المصادفة عادت لتلعب دورها. فهذا الشيخ/ الشاب كان الأكثر انفتاحاً والاكفأ في الاطلاع على علوم الغرب وتعلم اللغة الفرنسية والاتصال برجال فرنسا وكبارها بغية الاستفادة منهم واخذ ما يمكن أخذه لتطوير إدارات الدولة في مصر وتحديث اجهزتها وتحسين معارفها العامة أو تلك المتصلة ببرامج التعليم والتدريس والترجمة.
وصف الطهطاوي رحلته إلى باريس في «تخليص الابريز في تلخيص باريز». فهذه الرحلة ستتحول لاحقاً إلى الأشهر في تاريخ العرب المعاصر، كذلك سيتحول الكتاب إلى علامة فارقة في تأريخ ما يسمى بالنهضة العربية المعاصرة. وحتى الآن هناك الكثير من «الحداثيين» العرب يعتبرون أن بدء النهضة العربية انطلق مع ابحار تلك السفينة من الاسكندرية إلى مرسيليا. وهذا النوع من «الحداثيين» يشبه كثيراً ذاك النوع الذي يؤرخ النهضة العربية المعاصرة من تلك اللحظة التي نزلت فيها جيوش نابليون ميناء الاسكندرية.
كتاب الطهطاوي ليس كذلك، كذلك حملة بونابرت. لأن محاولات التحديث والتطوير سبقت كثيراً الحملة الفرنسية ورحلة الشيخ/ الشاب إلى بلاد الفرنسيس. فالكتاب وصفي ويغلب عليه الانشاء والأفكار الرومانسية العامة. كذلك تغلب على الكتاب قوة البيان على حساب الفكرة، ويشوبه الضعف في التحليل والميل إلى الشرح والتوصيف وعرض الحال والمقارنة بين شيء وآخر والمفاضلة بين هذا وذاك. وهذا النوع من التوصيف يدل في النهاية على ضعف في منهج الكتابة والاكتفاء بالسرد من دون تحليل المقدمات أو تركيب النتائج. وبسبب أسلوب مقابلة الأضداد والتعامل مع الفكر كأشياء جامدة تحولت أفكار الكتاب إلى نوع من البضاعة التي تستورد وتباع كما هي من دون محاولة لإعادة إنتاجها أو نقضها أو تجاوزها.
كتاب الطهطاوي ليس بعيداً عن هذا الفضاء العام الذي تعصف فيه الأفكار المشوشة المجبولة بحس الانبهار بحداثة الغرب والتعاطي بدهشة غير عقلانية أحياناً مع الانجازات العمرانية والمعرفية التي حققتها أوروبا خلال القرون التي تلت الاكتشافات الجغرافية.
هذه الدهشة التي أطل بها الطهطاوي من خلال كتابه على القراء ولدت حلقات من الأجيال المنبهرة بقدرات «الفرنجة» وعجز العرب عن التماثل معهم أو التوصل إلى المكان الذي وصلت إليه أوروبا. وبسبب دهشة الطهطاوي التي تسمرت في مكانها لم ينجح الفكر العربي (الحداثي تحديداً) في تجاوز عقدة الانبهار والانتقال إلى مجال آخر أكثر حيوية وتطوراً. فالدهشة أنتجت عقدة الدونية. والشعور بالدونية يكرس حال الإحساس الدائم بالتخلف والخضوع للأقوى. وهذا ما يمكن ملاحظته في مختلف الأنواع من الانتاج الفكري والعربي المعاصر. فهذا الفكر لايزال يعاني حتى أيامنا من عقدة التفوق الأوروبي (الافرنجي). وهذه العقدة التي بدأت عفوية مع الشيخ الطه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1386 - الخميس 22 يونيو 2006م الموافق 25 جمادى الأولى 1427هـ