مع نشوء الدولة في البحرين انطلقت عمليات التجميع والمركزة التاريخية الواسعة لكل مجالات الحياة. وقد وفرت هذه العمليات فرصة تاريخية لظهور أول «فضاء عمومي» تجرى فيه عمليات التواصل بين البحرينيين. وكان من الطبيعي أن يزعزع هذا الفضاء من قوة التنوع على جميع المستويات بما فيها ذلك الانقسام الطائفي المزمن وخصوصاً بعد توحيد مدارس السنة والشيعة وانخراط الجميع، سنة وشيعة، في دوائر عمل موحدة. الأمر الذي أسس أرضية قوية لقيام تجمعات جديدة ستبدأ في الظهور منذ الثلاثينات في صورة المثقفين «الوطنيين»، وفي صورة التجمعات العمالية «الوطنية»، وفي صورة التحركات الطلابية «الوطنية».
وفي سياق هذا الصعود لفضاء التواصل العمومي ستبدأ القرى المتكاثرة في التداخل، واللهجات المتنوعة في التقلص شيئاً فشيئاً ليصبح الجميع يتحدث لهجة شبه موحدة. على أن بعض اللهجات ستحافظ على خصوصيتها على مستوى «التنغيم» وطريقة النطق وهو ما يميز، على سبيل المثال، المحرقي حين يتحدث عن المنامي، وهذا الأخير عن الستري والسماهيجي والديري والدرازي والبارباري والرفاعي وهكذا. ولكن ما سيتضعضع، حقيقة، هو حضور تلك المفردات والتعبيرات العتيقة والخصوصية جداً والتي هي بمثابة رمز متفرد لهوية كل قرية، وشفرة خاصة ومغلقة ولا يفهمها إلا أبناء هذه القرية أو المنطقة.
ونحن نشهد اليوم مساراً متصاعداً من انقراض الكثير من هذه المفردات العتيقة والخصوصية إلى أبلغ الحدود، فقليل من أبناء الدير اليوم يستخدمون مفردات وتعبيرات مثل «صمايل: تعبير يستخدم في سياق الاستدراك التذكري» و«عفر: بمعنى يمكن أو يبدو» و«اغوز: بمعنى انعطف يميناً أو شمالاً»، وقلة هم أهل الدراز الذين لا يزالون يستخدمون مفردات وتعبيرات مثل «توفه: بمعنى الكرة» و«ددي بمعنى أسرع». وقلة كذلك من أهل كرزكان اليوم يستخدمون تعبيرات مثل «يدندك: بمعنى يطل»، و«دفكه: بمعنى سكبه». وهذا شأن بقية اللهجات في القرى والمناطق الأخرى.
وما كان لفضاء التواصل العمومي هذا أن يوجد لولا كسر طوق العزلة بين القرى وذلك بظهور الحاجة إلى ربط البلاد بشبكة واسعة من الطرق والردوم والجسور، ويذكر الشيخ إبراهيم المبارك أن «ردم الكوري» هو أول جسر بني في البحرين، وهو «جسر على الخليج الفاصل بين المنطقة الشمالية والجنوبية فوصل بينهما بهذا الجسر»، ونسبة هذا الردم إلى الكوري الذي بناه «وهو رجل من الأغنياء يقال له الشيخ أحمد الكوري نزيل الكورة»، وقد «جدد هذا الجسر مرات كثيرة على نفقة الحكومة وموقعه بين مري (قرية بالقرب من توبلي حالياً) وسلماباد وخليجه ممتد من البلاد القديم إلى العين الخضراء في الظهران (منطقة قريبة من سار وهي الآن خراب) «حاضر البحرين، ص ». وفي ديسمبر/ كانون الأول افتتح جسر الشيخ حمد الذي يربط بين المحرق والمنامة.
ولم تكن هذه الطرق والردوم والجسور مجرد أداة ربط بين القرى والمدن، كما لم تكن مجرد فاتحة لتأسيس فضاء التواصل العمومي بين أهل البحرين، بل كانت أداة من أدوات الانضباط ووسيلة فعالة للتحكم في حركة الأفراد والجماعات. ولمن أراد أن يقدر حجم الدور الانضباطي الذي قامت به هذه الردوم والجسور فيمكنه أن يعقد مقارنة سريعة بين قدرة الحكومة والإدارة البريطانية على التحكم في الجموع والحشود قبل بناء هذه الردوم والجسور وبعدها. ويمكن توضيح هذه الأهمية من خلال المقارنة بين ما جرى في حادثة العجم والنجادة في العام ، وبين ما جرى بعد ثلاثة عقود في فتنة محرم .
ففي الأولى كان النجادة المقيمون في المحرق جهزوا خمسة قوارب و«تجمهروا واستعدوا بالسلاح الكامل واستقلوا السفن في اليوم الثاني قاصدين المنامة للانتقام من العجم»، فبعث المعتمد إنذاراً إلى عبدالله القصيبي - شقيق عبدالعزيز القصيبي وكيل ابن سعود في البحرين - بأن حرس المعتمدية سيطلقون النار على جماعته إذا لم ينسحبوا ويرجعوا إلى المحرق، ففعلوا ذلك، وفي الوقت ذاته وصل قاربان من الحد وعليهما عدد من المسلحين، وأمر المعتمد القصيبي بإرجاعهما ففعل ذلك، ولولا ذلك «لانسفكت ذلك اليوم دماء زكية غزيرة ولعظمت المصيبة على عموم أهل البحرين» (قلائد النحرين في تاريخ البحرين، ص ).
ولكن حين اندلعت فتنة محرم في العام كان بإمكان الحكومة التحكم في تحركات الجموع الهائجة من خلال سد ردم الكوري وإغلاق جسر الشيخ حمد والطرق المؤدية إلى موقع الاضطرابات. ولهذا «فقد انتشرت الشرطة في مواقع ثلاثة: على جسر المحرق، وعند ردم الكوري على الشارع المؤدي إلى عوالي، وفي السوق لتغطية الطرق المؤدية إلى مآتم الشيعة. وكان هناك إدراك بأن تجمعات المحرق هي الخطر الأول. وكان بالإمكان فتح الجسر لكي يستطيع الناس العبور، ولكن الشخص المسئول عن ذلك لم يكن موجوداً» (البحرين - ، ص ). ويذكر بلغريف أنه ذهب في سبتمبر/ أيلول إلى «ردم الكوري» وأوقف «الباصات المقبلة من العوالي والتي تسلح ركابها من العرب بالقضبان والخشب» وأرسلهم إلى العوالي بعد أن صادر كل أسلحتهم (السيرة والمذكرات، ص ).
ومن خلال التحكم في الردوم والجسور والطرق أمكن للحكومة السيطرة على الوضع، في حين أنها عجزت عن وقف التحركات التي كانت تجرى في تلك المناطق التي لم تربط بينها جسور وردوم وطرق بعد، كما حدث مثلاً حين ركب المتجمهرون من أهالي المحرق قارباً في البحر وهاجموا أهالي عراد من البحر مرتين، و«جرح في تلك الهجمات على الأقل ثمانية أشخاص، اثنان منهم بجروح خطيرة»، وبعدها صدر تعميم بمنع التجمع لأكثر من ستة أشخاص.
إننا إذاً أمام مسار متصاعد من تنميط التنوع وخلق فضاء تواصل عمومي، وفي هذا المسار المتصاعد تأتي أهمية توحيد التعليم ما سمح لأبناء السنة والشيعة أن ينخرطوا في مدارس موحدة. ويذكر بلغريف أن السبب الرئيسي لإنشاء مدرسة إلى الشيعة في العام هو «رفض أبناء الشيعة الالتحاق بالمدارس التي يقوم الأساتذة السنة بالتدريس فيها» (السيرة والمذكرات، ص ). وتوحدت المدارس حين تحول التعليم النظامي من الإشراف الأهلي إلى الإشراف الحكومي المباشر، وذلك في العام /، إذ تم دمج الإدارة السنية والجعفرية، وأصبح التعليم تحت إشراف الحكومة مباشرة، ويرأسه وزير المعارف الشيخ عبدالله بن عيسى.
ولم يجر هذا التوحيد من دون ممانعة من الطلاب والأهالي، ويذكر تقرير التعليم للعام / أن طلاب مدرسة السنة انتقلوا في العام إلى مدرسة الشيعة (المدرسة الجعفرية بالمنامة)، إلا أن الشيعة عارضوا «انتقال السنة إلى المدرسة» (مئة عام على التعليم النظامي في البحرين، ص ). ومع هذا فقد مضى مشروع التوحيد إلى آخره، و«انتهت مع الوقت معارضة الشيعة لالتحاق الطلاب السنة بمدرستهم» (ص ).
يأتي كل هذا في سياق بناء الدولة وما رافقه من توحيد المتنوعين وتنميط المختلفين، ولهذا لم يكن بلغريف مخطئاً حين قال: «لقد غير التعليم طريقة تفكير الطائفتين وقربهما أكثر» (ص ). وكما قرب التعليم بين الطائفتين فإن الانخراط في عمل موحد في شركة نفط البحرين أو في وظائف الحكومة قد زعزع الفوارق والتنوع بين أهل البحرين سنة وشيعة، قرويين ومدنيين، وعلى مستويات كثيرة من اللهجة واللباس وحتى البنية الجسمانية. وهو ما يرصده بلغريف بتفرد في نص نادر كتبه في الخمسينات وبعد عشرين عاماً من ظهور النفط في البحرين.
يقول: «غطى النفط البعد الحضاري والاجتماعي بين فئتين من مجتمع البحرين، فأهل القرى كانوا يختلفون عن أهل المدينة في لهجتهم ولباسهم وحتى في بنيتهم (نتيجة تفشي أمراض الملاريا بينهم) وكان همهم الزراعة وصيد السمك والغوص. ولكن بعد عشرين عاماً من ظهور النفط، أصبحت الفوارق العمرانية والجسمانية قليلة جداً. وقد يكون هذا التغيير إلى الأفضل ولكن ربما كانت له آثار سلبية ستتضح لنا في المستقبل!... وأصبح لمجتمع البحرين ذوق مختلف، فالحجارة بدلاً من بيوت السعف، ومراوح السقف محل أبراج الهواء والبضائع اليابانية لم تعد مرغوبة! وتغيرت أحاديث المجالس ومعها ملابس الناس وطلب القاضي من ابنه المقبل من القاهرة لبس الثوب بدلاً من البدلة قبل نزوله من السفينة! وغطت الأحذية الأقدام بدلاً من النعال. ولبس البعض البدلة والملابس الأوروبية» (السيرة والمذكرات، ص ).
لم يكن هناك شك إذاً في أن جيلاً بحرينياً جديداً بدأ في الظهور بعد بناء الدولة، جيلاً سهل القيادة والانضباط والتنميط على خلاف الجيل القديم من البحرينيين ما قبل بناء الدولة واستقرار الحكومة وامتداد أجهزة الانضباط إلى كل شيء في الحياة، وهو ما سمح أساساً بصنع البحريني المنضبط. وقد نشأ هذا الجيل الجديد من «البحرينيين المنضبطين»، في ظل ظروف مختلفة، وبتعبير بلغريف فإن هذا الجيل ترعرع «تحت رعاية حكومة مستقرة وتعود على وجود المدارس والمحاكم، والبلديات والمؤسسات الحكومية الأخرى التي لم توجد في عهد آبائهم» (مذكرات بلغريف، ص ).
من هنا إذاً ظهر «البحريني الجديد» الطيع والخاضع والمنضبط والمنمط والنافع كعلامة على نجاح المهمة التاريخية لبناء الدولة والتعميم الكامل لأجهزة الانضباط والتنميط التي صار بإمكانها بعد ذلك أن تعيد إنتاج هذا النوع من المواطنين بكل كفاءة واقتدار. ومنذ تلك اللحظة اختفى ذلك «البحريني القديم» وتوارى بعيداً عن الأنظار: أنظار أجهزة الانضباط التي تتحرك فوق سطح الأرض لا تحتها، وأنظار «البحريني الجديد». ويذكر بلغريف أن هذا الجيل الجديد لا يدرك ولا يستوعب ما حدث في البحرين من تغيرات جذرية صيرت آباءه إلى «جيل قديم مهجور».
لقد كان هذا النسيان قرين التقدم المتصاعد في بناء الدولة وفي ظهور البحرينيين الجدد كـ «جماعة متخيلة» جديدة. وبحسب بندكت أندرسون، فإن كل «جماعة متخيلة» جديدة تكون بحاجة إلى النسيان بقدر حاجتها إلى تذكر قواسمها المشتركة (الجماعات المتخ
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1385 - الأربعاء 21 يونيو 2006م الموافق 24 جمادى الأولى 1427هـ