منذ سنوات كنا نعتقد أن السياسيين العرب من أكثر الناس كذباً على شعوبهم حتى باتت الولايات المتحدة في عهد رئيسها الحالي تتفوق على الساسة العرب في اختلاق الأكاذيب وبصورة ممجوجة تتضح فيها العربدة الأميركية وكأن هؤلاء الأميركان يخاطبون عالماً من البهائم الذين يفتقدون الحد الأدنى من العقل.
عندما استمعت إلى بيان وزارة الدفاع الأميركية عن موت سعوديين ويمني وأنهم ماتوا منتحرين لم أكد أصدق ما أسمع، كنت أعرف أن الأميركان يكذبون بصورة فجة ووقحة، لكنني ما كنت أظن أنهم يصلون إلى هذا المستوى القبيح من الكذب فمن يصدق أن ثلاثة أشخاص ينتحرون في وقت واحد وأعين الحراس غائبة عن هذا المشهد... إن الجميع يعرفون أن هذا السجن البغيض مُراقب كل من فيه على مدار الثانية بكاميرات لا تتوقف تحصي على سكانه البؤساء حتى النفس فضلاً عن الأشياء الأخرى فكيف يتمكن هؤلاء الثلاثة من شنق أنفسهم من دون أن يراهم أحد؟ الأميركان لم يتوقفوا عن هذه الكذبة على سوئها وبشاعتها بل مضوا إلى أكثر من ذلك ما يندي له الجبين - لكنهم لا جبين لهم - فعلى لسان بعض كبار مسئوليهم في وزارة الخارجية، قال: بعض هؤلاء المنتحرين كان هدفهم إحراج الأميركان، وقال آخرون: إن هؤلاء إرهابيون مارسوا حرباً غير متكافئة ضد الأميركان الطيبين الأبرياء!
هؤلاء الطيبون من الأميركان وعدوا بإجراء تحقيق في هذه المسألة وبطبيعة الحال قام الجيش الأميركي بالتحقيق مع نفسه وأثبتت التحقيقات النزيهة أن جميع أفراد الجيش بريئون من أية تهمة مهما تكن! أرأيتم تحقيقاً نزيهاً أفضل من هذا التحقيق؟ القاتل يحقق مع نفسه وهذا هو العدل في المفهوم الأميركي المفعم بالديمقراطية وبتحقيق حقوق الإنسان كلها!
ياسر الزهراني - أحد المقتولين الثلاثة - مات وعمره اثنان وعشرون عاماً وكان عمره بضع عشرة عاماً عندما تم اعتقاله وإيداعه في سجن غوانتنامو، أي أنه كان دون السن القانونية ولا يُعامل كالكبير في كل القوانين الدولية عدا قانون أميركا بطبيعة الحال.
أهالي المقتولين الثلاثة أكدوا رفضهم للمقولة الأميركية وأكدوا أن أبناءهم لا يمكن أن ينتحروا لأنهم يعرفون أن هذا العمل محرّم في شريعتهم فوق أن هؤلاء الثلاثة كانوا يراسلون ذويهم ويعدونهم بأنهم سيعودون إليهم يوماً ما ويوصون ذويهم بالصبر والتحمل.
هؤلاء الأهالي أكدوا أن أبناءهم الثلاثة ماتوا تحت التعذيب، كما أنهم اتهموا السلطات الأميركية بتأخير تسليم جثتهم كي تتمكن هذه السلطات من إخفاء حقيقة تعذيبهم وقتلهم... هؤلاء الثلاثة ومثلهم مئات قُبض عليهم ظلماً وعدواناً ومورست عليهم أبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، ولو كان لدى الأميركان حياء لعرفوا أن هؤلاء الثلاثة سجناء تحت التحقيق وأنهم أمانة عندهم - بحسب كل القوانين - وأنه ما كان يجب أن يُسمح لهم بالموت بتلك الطريقة التي ادعاها الأميركان... لكن أميركا التي أبادت الهنود الحمر وكانت تصفهم بالمتوحشين هي أميركا التي أصرّت على فتح هذا السجن الرهيب في كوبا حتى تتحرر فيه من كل القوانين البشرية وتُمارس فيه وحشيتها كما تشاء.
بقي أن نقول إن الرئيس بوش كان رحيماً وعطوفاً رقيق القلب، فلم يتحمل موت هؤلاء «المنتحرين» فاعتذر عن موتهم وعمّا حصل لهم... وكأني بهذا الرئيس لا يرى ما تعرضه الشاشات التلفزيونية من ذهاب المتهم إلى التحقيق ماشياً على قدميه وعودته بعد التحقيق محمولاً على نقالة... وكأني به لا يرى كلابه تنهش أجساد الأسرى وتُوقع بهم الرعب الذي قد يؤدي إلى موتهم، وكأني به لا يعرف أن وزارة دفاعه تمنع كل المنظمات الدولية من رؤية هؤلاء الأسرى على انفراد... هل يكفي اعتذاره بعد كل هذا؟ لكن هل نستغرب قتل ثلاثة في غوانتنامو بعد رؤيتنا لما تم في سجن أبوغريب؟ هل نستغرب قتل ثلاثة بعد قتل العشرات في «حديثة» بصورة همجية وبعد تحقيق الجيش مع نفسه ثم تبرئة الجيش من القيام بأية انتهاكات وكأن قتل العشرات لا يُعد انتهاكاً في عرف الأميركان!
سجل الإجرام الأميركي لا حدود له وسيبقى كذلك ما لم تعد العزة والكرامة إلى العرب والمسلمين، هذه الكرامة التي قتلها الساسة عندما سكتوا على كل الجرائم الأميركية بحق شعوبهم فجعلوا الأميركان يستمرئون هذه السلوكات ويواصلون ارتكابها.
اعتذار الحكومة الأميركية ورئيسها لا يكفي، بل لا قيمة له، المطلوب من كل العرب أن يتحركوا لإنكار هذا الحدث وكل الحوادث الأخرى، المطلوب من كل الشرفاء في العالم أن يفضحوا السياسات الأميركية ويقاوموها، المطلوب من كل الحكومات العربية أن تقف مع شعوبها حتى يكون لها الاحترام من هذه الشعوب، فليس مقبولاً أن تتخلى هذه الحكومات عن شعوبها وتصمت عما يجري لهما.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر - كما يقولون - فإن الصهاينة في فلسطين - وهم تلاميذ الأميركان في الإجرام - عندما قتلوا أسرة كاملة - عدا طفلة - كانت تتنزه على شاطئ غزة اتهموا الفلسطينيين بهذه الجريمة، لكنهم - تكرماً منهم - تطوعوا بالتحقيق مع جيشهم عن طريق هذا الجيش أيضاً وانتهى التحقيق إلى تبرئة القتلة من جريمتهم... هل ترون فرقاً بين جرائم الأميركان والصهاينة؟ وهل يمكن أن نصدق أكاذيبهم عن الإصلاح والديمقراطية وسواهما؟
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1384 - الثلثاء 20 يونيو 2006م الموافق 23 جمادى الأولى 1427هـ