كان في ذهن «المحافظين الجدد» أصحاب القول الفصل في صنع وتوجيه السياسة الأميركية في عهد الرئيس بوش الابن، ان حرب الخير ضد الشر، التي شنوها على أفغانستان والعراق، هي التي ستكسر شوكة العالم الإسلامي، بكل ما يحمله من فكر وعقيدة وثقافة وسلوك، فهي حرب موجهة ضد الإسلامي كدين والمسلمين كبشر، وليس فقط ضد الإرهاب، الذي ظهرت جماعاته وسط العالم الإسلامي في الفترة الأخيرة لأسباب مختلفة.

وبعد أربع سنوات من حرب أفغانستان وثلاث من حرب العراق، اكتشفت السياسة الأميركية، أولاً أن حربها فاشلة، باعتراف الرئيس بوش نفسه وتابعه بلير، وثانياً أنها حرب استفزت قطاعات واسعة من المسلمين، فاندفعوا إلى صفوف المقاتلين، وثالثاً أنها حرب ضاعفت من مشاعر الكراهية ضد السياسة الأميركية الحمقاء، ليس من الشعوب العربية والإسلامية فقط، بل من جانب معظم شعوب العالم.

ومن الواضح أن تراجع رموز المحافظين الجدد عن احتلال الصفوف الأولى في الإدارة الأميركية، بعد فشلهم، أدى إلى نوع من المراجعة للسياسة الخارجية الأميركية وتحديداً فيما يتعلق بطرق ومفاهيم التعامل مع الشعوب والحكومات العربية والإسلامية، وهي مراجعة ظهرت واضحة خلال العامين و، وصاغت اتجاهات جديدة تقوم على الحوار لا المواجهة، طبقا لما تصرح به وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس.

سياسة الحوار والمراجعة، ظهرت واضحة أيضاً في علاقات الإدارة الأميركية بكثير من نظم الحكم العربية والإسلامية، وفي طليعتها مصر الدولة المحورية، وتبدى ذلك في تحول الضغوط الأميركية الشديدة على الحكومة المصرية، إجراء إصلاحات سياسية داخلية بشكل عاجل، إلى نوع من المحاورة والمداورة، شد وجذب، غضب ورضا، لا يوصل العلاقات إلى مراحل التوتر العنيف كما كان الحال قبل عامين مثلا.

في هذه الدائرة التي انتقلت من سياسة الضغط والفرض، إلى سياسة الحوار والتفاهم، ظلت قضية مستقبل الحكم في مصر هي القضية الحاكمة، حولها تجري الحوارات والمداورات، وبسببها تتأزم العلاقات ثم تنتعش، وفهم كثير من المصريين ان القضية أصبحت موضوع مساومة بشكل من الاشكال، في ضوء حرص النظام الحاكم في مصر على الاحتفاظ بمنهجه في الإصلاح القائم على اختيار الوقت المناسب والطريقة المناسبة للإصلاح من ناحية، وفي ضوء رغبة الإدارة الأميركية العارمة، في أن تقدم مصر تحديداً على إصلاح ديمقراطي جذري وواسع، يفتح الباب واسعاً أمام التحولات الديمقراطية في العالم العربي كله من ناحية أخرى، وهما بذلك كزوجين لا يطيقان بعضهما بعضاً في غرفة مغلقة، لكنهما لا يستطيعان الفراق، ولا يجرؤان على الطلاق!

وتحولت حكاية الخلافة وتوريث الحكم في مصر «الجمهورية»، ومدى قبول الأميركيين بها، وسيلة للضغط. مقابل فتح أبواب الحوار والتفاهم، والقبول بدور ما لتيارات الإسلام السياسي الصاعدة، ومن بينها جماعة الاخوان المسلمين.

والواضح أن الإدارة الأميركية، بعد فشلها في الحرب ضد «الإسلاميين» في أفغانستان والعراق، عادت سيرتها الأولى، بقبول الحوار والاقتراب ممن تسميهم الإسلاميين المعتدلين، استغلالا لقوتهم في مواجهاتها هي مع نظم الحكم القائمة من ناحية، وسعيا لاقامة أو صوغ «إسلام معتدل» على الطريقة التركية، التي صارت نموذجاً للتحديث والإصلاح في نظر كثير من صناع السياسة الأميركية، من ناحية ثانية، وليس غريبا ولا مفاجئاً ان تقيم السياسة الأميركية جسور تفاهم وعلاقات تعاون مباشرة أو غير مباشرة، مع قوى إسلامية تراها معتدلة وينطبق عليها التصنيف الأميركي، لابتزاز النظم الحاكمة أو لاعداد هذه القوى للقفز إلى الحكم، بواسطة الانتخابات، والتصويت الشعبي في الظروف الملائمة، وتحت الاشراف الأميركي!

وهي إذ تفعل لا تجد في ذلك حساسية أو حرجاً، ولا تخاف بالتالي الاتهام بالانتهازية المكيافيلية، فقد جربت ذلك ونجحت، عبر صياغات متعددة ومتباينة، من تركيا إلى العراق، ومن الأردن إلى المغرب، وها هو الدور على مصر، حتى وهي تواجه فيها ظروفاً سياسية اجتماعية مختلفة، تلعب فيها القوى الحية والمؤسسات الراكزة أدواراً نشيطة، يقبل بعضها بالتيار السياسي الإسلامي المعتدل بشروط، ولا يقبل بعضها الآخر أصلاً أي دور لهذا التيار من الأساس لأسباب ايديولوجية وعملية.

ولقد أصيبت القوى الديمقراطية والليبرالية، بما فيها اصدقاء أميركا، بصدمة وذهول من هذه الانتهازية الأميركية، التي تعتبرها خيانة حقيقية لقوى الإصلاح والتحديث، ومن ثم خسرت أميركا داعية الإصلاح الديمقراطي تعاطف القوى الوطنية والديمقراطية، مقابل اقترابها من التيارات الدينية، التي لم تفصح حتى الآن، عن حقيقة ايمانها بالديمقراطية بكل قواعدها وقيمها الملزمة.

وهكذا أصبحنا جميعاً في دوائر متشابكة من الحيرة والارتباك، فالإدارة الأميركية تبتز الحكومات في بلادنا، لاجراء إصلاحات سياسية واضحة، وترد الحكومات بأن فتح هذا الباب على اتساعه، سيأتي بالتيار الإسلامي السياسي إلى الحكم، بما فيه من تنظيمات متطرفة وربما إرهابية، ليقلب المائدة على المصالح الأميركية أولاً وأخيراً.

وفي الوقت نفسه تغازل السياسة الأميركية التيار السياسي الإسلامي، لاستقطابه في مواجهة تعنت الحكومات العربية، وربما اعداده وترويضه ليبقى بديلا جاهزا لهذه الحكومات، بينما التيار الإسلامي يناور، فيقبل الحوار الأميركي سراً ويهاجم السياسة الأميركية علناً، حتى لا يفقد أرضيته الشعبية من ناحية، ويصعد من ضغوطه على الحكومات المعنية لمحاصرتها واسقاطها من ناحية أخرى.

وفي كل الاحوال، وضمن مسيرة خيانة الديمقراطية، تلعب السياسة الأميركية، على الطرفين المتصارعين، أي على نظم الحكم المتهمة بالفساد والاستبداد، وعلى التيارات الإسلامية المتهمة بالتطرف وتفريخ الإرهابيين والمتعصبين، وهي أي أميركا لا تريد في الحقيقة نجاح هذا أو ذاك، لكنها تريد حماية مصالحها الحيوية في المنطقة، واسترداد سمعتها المفقودة، التي أصابها كثير من السوء والكراهية على كل المستويات، وفي سبيل ذلك ستقبل وتتعاون وتحمي الأقدر على توفير وضمان هذه الحماية.

ويبدو أن النموذج الإسلامي التركي، الجامع بين صيغة الديمقراطية الغربية، وصيغة الإسلام، بين المؤسسات السياسية والدستورية والمؤسسات العسكرية والأمنية، هو النموذج الجاذب والمسيطر على فكر الإدارة الأميركية، ومن ثم تبذل كل الجهود لاقامة مثيل أو شبيه له في العراق، فوق ركام الصراعات الطائفية القائمة والمشتعلة الآن، وفي خطتها طويلة المدى إعادة تصديره إلى الدول المجاورة، وفرضه بهدوء، أو بالقوة الجبرية إن لزم الأمر.

وأظن ان مصر تحديداً هي المستهدفة أولاً وأساساً، بحكم كونها دولة محورية مركزية ذات تأثيرات واضحة في محيطها العربي والإسلامي والإفريقي، ولذلك ومن باب الاجتهاد الشخصي، اقول إن هناك عدة سيناريوهات مطروحة وربما معدة لمصر تحديداً وهي:

- أولاً: سيناريو التفاهم الأميركي الأوسع مع النظام الحاكم، لكي يمضي التفاعل السياسي الاجتماعي في مساره الراهن، على رغم التباطؤ والتأجيل، لضمان انتقال السلطة في هدوء بما في ذلك حكاية التوريث التي ينفيها علناً الطرفان المصري والأميركي!

- ثانياً: سيناريو التفاهم الأميركي الأعمق مع التيار السياسي الإسلامي، بما في ذلك جماعة الاخوان، التي أثبتت فاعليتها من خلال الحصول على ثمانية وثمانين مقعدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت العام ، بشرط ارتداء الطربوش التركي، مع تأكيد دور الجيش في العملية السياسية، اسوة بالنموذج التركي أيضاً.

- ثالثاً: سيناريو دفع الأمور إلى مرافئ الفوضى غير المحكومة، بمزيد من اشعال وتحريض الغضب الشعبي المطالب بإصلاحات سياسية وديمقراطية، والمقهور بظروف اجتماعية اقتصادية عنيفة، وباستغلال ذلك تستطيع أميركا أن تضع رجالها فوق الأكتاف بوسائلها التي جربتها في دول أخرى، على غرار الثورات البرتقالية والارجوانية في أوكرانيا، بولندا، بلغاريا والبلقان... إلخ.

رابعاً: يبقى السيناريو المضاد تماماً المعادي للسياسة الأميركية وللسياسة المحلية معاً، والقائم على نهوض حقيقي لقوى الوطنية والديمقراطية الأصيلة والتي مازالت كامنة بجذورها القوية في التربة المصرية، والتي تحتاج إلى عوامل دفع وحفز من الداخل، أكثر من حاجتها إلى مناورات الخارج.

وبقدر ما تراهن السياسة الأميركية على سيناريوهات خائنة وديمقراطيات خائبة، بقدر ما نراهن نحن على السيناريو الوطني الحقيقي، لإعادة بناء مصر الحديثة، وطنا للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية... لكن ذلك يحتاج إلى جهد جهيد، وليس فقط إلى جهد المقل بأفكاره المبعثرة وعواطفه الموزعة!

خير الكلام: يقول الشاعر العراقي الصافي النجفي:

متى أترجى منك صدقَ العواطفِ

وقلبك مقسومٌ على ألف هاتفِ