أكثر من أربع هيئات سياسية حزبية أعلن عن تشكيلها في لبنان في أقل من شهرين. الهيئات تأسست بناء على مؤتمر صحافي عقده هذا «الوزير السابق» أو «النائب السابق» أو نائب سابق عاد من الاغتراب أو استاذ مدرسة يطمح بالنيابة أو زعيم حي في مدينة أو رئيس عشيرة أو قائد منطقة في هذا القطاع الشمالي أو الجنوبي أو في جبل لبنان.
أفكار التنظيمات ليست جديدة ولا يوجد لديها «فلسفة» أو «وجهة نظر» مختلفة أو ايديولوجية متميزة. فالأفكار موجودة ومتداولة في السوق اللبنانية منذ عقود. الجديد فيها قديم والقديم أقوى منها وأفضل وأقدر على التعبير عن مصالح جارية.
لماذا إذاً كل هذا الكم من الأحزاب في بلد تزدهر فيه التنظيمات والحريات وتتكاثر فيه المظاهرات وتتنوع بحسب اختلاف الأمكنة والازمنة؟ يمكن البحث عن تفسيرات كثيرة وتحليلات مختلفة، ولكن المجموع العام لكل الاجتهادات يحتمل وضعها تحت عنوان مشترك: التخلف.
التخلف في العلاقات الاجتماعية هو نتاج تراجع العمران البشري وما يمثله من معارف إنسانية. وبقدر ما تتسع رقعة التخلف تزداد المساحة السياسية للتشرذم الحزبي. فالحزب في البلدان المتخلفة (أو النامية) هو نتاج علاقات اجتماعية تتحكم فيها شروط غير نامية في التفكير السياسي العام. بينما الحزب في البلدان المتقدمة هو تعبير سياسي عن نمو علاقات اجتماعية تتعدى إطار التفكير المحلي المحكوم بالطائفة أو المذهب أو الزعامة المناطقية المتوارثة. فالحزب في أوروبا مثلاً يمثل في برنامجه السياسي ايديولوجية تعكس مصالح ممتدة افقياً تتجانس نسبياً مع المشترك الوطني. فالمصلحة في أوروبا هي أساس السياسة. والايديولوجية التي يمثلها الحزب تعكس بحدود نسبية ذاك التجانس الطبقي أو الاقتصادي الذي ينص عليه برنامج التنظيم الحديث. فالحزب في أوروبا يحاول في هيكليته التنظيمية الحديثة أن يمثل قدر المستطاع طموحات فئات اجتماعية نامية في دائرة السوق القومية. فالدولة هي الهيئة العليا والقوى السياسية تتنافس مصلحياً في دائرة الدولة «القومية» للوصول إلى السلطة.
هذا لا يعني أن كل الأحزاب في أوروبا تجاوزت علاقات التخلف. فهناك الكثير من التيارات العنصرية والفاشية والنازية المعادية للغريب أو الأجنبي. وهناك أيضاً وجهات نظر سياسية تفوقية لاتزال تؤمن بنظريات الأعراق والاجناس وتحتقر الجماهير وتتأسف على مساواة الناس في الحقوق والواجبات. مثل هذه الأحزاب لاتزال موجودة وأحياناً تنجح في السيطرة على بعض المناطق أو تحتل نسبة أو في المئة من مقاعد البرلمان.
هذا النوع المتخلف من الأحزاب موجود في أوروبا، ولكنه في مجموعه العام يمثل أقلية سياسية تشاغب على القوى التي تمثل السياق العام للتطور. فالثقل الحقيقي يبقى لتلك الأحزاب التي تملك شرعية تاريخية وتقوم هيكليتها التنظيمية على تصورات ايديولوجية تعتمد فلسفة في السياسة أو التاريخ أو الجغرافيا أو الاقتصاد. فالحزب الاشتراكي له رأي في حقول المعرفة والعمران، والحزب الليبرالي كذلك، وغيرها من أحزاب وطنية أو ديمقراطية أو اجتماعية. وهناك سلسلة أحزاب خلطت مجموعة أفكار في سياق واحد وبرمجت وجهة نظرها فدمجت بين المسيحية والاشتراكية، أو المسيحية والديمقراطية، أو بين الديمقراطية والاشتراكية. ومهما اختلفت التسميات فإنها في النهاية ليست مجرد عناوين بل هي تعبر عن تحولات اجتماعية ورغبات كتل تحمل تصورات عن المستقبل وتريد تطوير الراهن إلى ما هو أفضل.
هذه الحال المتطورة من التفكير الحزبي موجودة في لبنان، ولكنها محدودة التأثير في إنتاج السياسة. فالسياسة في لبنان تنتجها آليات مغايرة لتلك التي تأسست في ضوء ملامحها ايديولوجية الأحزاب الأوروبية.
الحزب في لبنان هو زعامة تقليدية تطورت إلى حال تنظيمية حديثة. والحداثة الحزبية هي غطاء لزعامات متوارثة أو لمراكز قوى تتحكم بشروط الوعي السياسي في هذه المنطقة أو تلك الطائفة أو هذا المذهب. فالحزب في لبنان هو أقرب إلى الكتلة البشرية المتجانسة مذهبياً أو طائفياً أو مناطقياً، وبالتالي فهو لا يعكس مصالح متجانسة ممتدة افقياً على مساحة السوق الوطنية (أو القومية). فالدولة في البلاد العربية، ولبنان تحديداً، لاتزال تخضع إلى تشكيلات اجتماعية (قبلية، عشائرية أو طائفية) سابقة للتقدم المحدود الذي حصل في بعض المناطق والقطاعات وتوقف عند نقطة محددة ولم يواصل نموه. وهذا التطور الناقص أو القاصر على اللحاق بشروط وآليات النمو والتقدم أسهم في تكوين ثغرات اتاحت الفرصة لقوى محلية في تأسيس أحزاب لسد هذه المسام المنتشرة في التشكيل الاجتماعي للدولة والمجتمع.
كثرة الأحزاب في لبنان والعالم الثالث عموماً تعود إلى كثرة العصبيات التي تعبر عن تعثر التقدم والنمو وتأزم العلاقات الاجتماعية وضعفها البنيوي الذي منعها سياسياً من احتواء مختلف المصالح. فالمصلحة في العالم الثالث أقرب إلى العصبية وتميل طبيعياً إلى التجانس الايديولوجي معها بينما المصلحة في العالم الأوروبي (أو الأميركي) أقرب إلى التمثيل الطبقي وتميل سياسياً إلى التجانس الايديولوجي مع قوى تتقارب حزبياً في برنامجها العام الذي يرتقي إلى مستوى الدولة القومية (السوق القومية).
هناك الكثير من الأحزاب في لبنان لا معنى لها ولا قيمة ولا وظيفة لدورها ومع ذلك أعلن خلال أقل من شهرين عن أربع هيئات سياسية جديدة... وهناك توقعات بالإعلان عن المزيد منها. وحين تكثر الأحزاب في بلد صغير مثل لبنان فمعنى ذلك أن الانسجام يميل إلى التجانس مع الحلقات الضيقة والابتعاد نسبياً عن حلقة الدولة في معناها السياسي أو الاقتصادي (السوق الوطنية)
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1384 - الثلثاء 20 يونيو 2006م الموافق 23 جمادى الأولى 1427هـ