بات من المرجح أن يكون موعد انتخابات في أواخر هذا العام، وإذا ما صدق هذا الترجيح فإن موعد انتخابات سيتوافق مع الذكرى الخمسين للقضاء على هيئة الاتحاد الوطني إذ ألقي القبض على قادة الهيئة في نوفمبر/ تشرين الثاني ، وفي ديسمبر/ كانون الأول تم نقل الثلاثة المحكوم عليهم إلى السفينة الحربية البريطانية تمهيداً لنفيهم إلى «سانت هيلانة». وبين أواخر وأواخر تغيّر وجه البحرين تغيّراً كبيراً، وحدثت تحولات شبه جذرية في المشهد السياسي في البلاد. وفي هذه الخمسين سنة انتقل إلى رحمة الله كل قادة الهيئة، وصار خطابها السياسي جزءاً من تاريخ لم يبق منه اليوم سوى قليل من «بقايا» مطالبه الشعبية ووحدته الوطنية المفقودة، وشيء من التوافقات التاريخية في الأسماء الأولى للفاعلين السياسيين من قادة الهيئة ومن قادة المعارضة اليوم (عبدالرحمن الباكر، عبدالرحمن النعيمي، السيدعلي كمال الدين، الشيخ علي سلمان، إبراهيم بن موسى وإبراهيم فخرو، إبراهيم شريف، عبد العزيز الشملان، عبدالعزيز أبل، وأخيراً ليس عصياً أن يقرن المرء بين عبدعلي العليوات، وعبدالرسول الجشي!).
سأتجاوز هذه التوافقات العرضية في الأسماء لكونها عديمة الدلالة، وسأركز بدلاً من ذلك على ما أتصور أنه يمثل افتراقاً جذرياً بين خطاب قادة الهيئة وخطاب الفاعلين السياسيين اليوم. وسأبدأ في تحليل هذه الاختلافات انطلاقاً من قضية دقيقة ستبدو لبعض القراء تجريدية ولا تخلو من نزعة تحليل نفسية إلا أنها قضية حاسمة في جملة من الاختلافات الملموسة القائمة بين الخطابين، وأيضاً هي قضية تنطوي على مؤشرات كاشفة للبنية المولدة للمواقف والأفعال والأقوال في كلا الخطابين.
يتعلق الأمر في هذه القضية بإحساس الفاعلين السياسيين بالزمن أو موقفهم منه. وأقول هذا لأن من يلقي نظرة سريعة على خطاب الفاعلين السياسيين اليوم سيلمس إحساساً حاداً بالزمن وشعوراً يقظاً بالمسئولية تجاه التاريخ وتجاه الأجيال القادمة، وصار هذا الإحساس الطاغي بالزمن سمة مميزة في هذا الخطاب. وحين يقع الفاعل السياسي في قبضة هذا الإحساس يتراءى له أن كل ما يقوم به وما يصرح به وما يصدر عنه من بيانات إنما هو إنجاز لمهمة تاريخية كبرى، وتسجيل لموقف تاريخي ستحتفظ به ذاكرة الأجيال القادمة.
لقد صار هذا الخطاب مهووساً بنزعة متحكمة أسميها هنا نزعة «تسجيل المواقف للتاريخ». فحين قاطعت قوى التحالف الرباعي انتخابات جرى تصوير المقاطعة على أنها تسجيل لموقف تاريخي، وفي هذا يقول الأمين العام للمكتب السياسي بجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) إبراهيم شريف: «إن خيار المقاطعة كان ضرورياً للوضع في ذلك الحين فقد كان ينبغي للجمعيات المعارضة أن تسجل موقفاً تاريخياً على دستور ». وباسم هذا «التسجيل التاريخي» كتب القيادي في جمعية الوفاق الوطني الإسلامية جواد فيروز؛ إن خيار المقاطعة حقق أهدافه من خلال «حفر ذلك الموقف السياسي في ذاكرة التاريخ». وحتى حين عزمت هذه القوى على المشاركة في انتخابات فإنها صوّرت المشاركة على أنها تسجيل لموقف تاريخي. ولم يسلم من هذا الهوس بتسجيل المواقف للتاريخ حتى أولئك الفاعلين في حركة «حق» إذ جرى تصوير التوقيع على «عريضة الأمم المتحدة» بأنه «تسجيل لموقف تاريخي». وهكذا وقع خطاب الفاعلين السياسيين في قبضة هذه النزعة المتحكمة اليوم، نزعة الهوس بتسجيل المواقف للتاريخ. وبذلك صار التاريخ هو المتلقي الأهم لمعظم مواقف هؤلاء الفاعلين.
وهذا هوس يميّز الخطاب السياسي اليوم، في حين لم يكن خطاب قادة هيئة الاتحاد الوطني مأخوذاً بهذا الإحساس الحاد بالزمن والهوس الطاغي بالتسجيل والحفر والكتابة على صفحات الزمن ومن أجل التاريخ. لم يكن هؤلاء مهووسين بتسجيل المواقف من أجل التاريخ، بل كانوا مدفوعين بعنفوان الفعل في زمنهم الراهن، وبقوة الأمل في أن يؤسس هذا الفعل لا موقفاً للتاريخ بل إصراراً على «نيل الحقوق كاملة». أما الفعل من أجل تسجيل موقف تاريخي فهذا ضرب من السلوك السياسي لم يكن معروفاً بينهم، والدليل على هذا أن بلاغات الهيئة التي أوردها الباكر في كتابه لا تشتمل على أية إشارة إلى هذا النوع من الهوس بتسجيل المواقف التاريخية والحفر في ذاكرة التاريخ. المرة الوحيدة التي ورد فيها شيء من ذلك كانت في أول رسالة يبعثها قادة الهيئة إلى حاكم البحرين آنذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وكان الغرض من هذه الإشارة هو حث الحاكم على الاستجابة للمطالب الشعبية، إذ جرى تصوير هذه الاستجابة على أنها تسجيل «صفحة ناصعة في تاريخ هذه البلاد».
كان الدافع وراء الفعل السياسي في هذا الخطاب هو الرغبة في الإنجاز على أرض الواقع، أما في خطاب الفاعلين السياسيين اليوم فإن الدافع وراء الفعل هو الرغبة في تسجيل مواقف تاريخية ومن أجل التاريخ، وشتان بين الحالين: في الأولى يكون الخطاب مدفوعاً من أجل الفعل في زمنه الراهن ومن أجل حقوق ناسه المباشرين، في حين يكون الخطاب، في الثانية، مدفوعاً من أجل الزمن القادم، زمن الأجيال القادمة التي سيكون لها وحدها أن تحكم على تلك «المواقف التاريخية».
في الأولى أنت لا تنتظر حكماً لا بالسلب ولا بالإيجاب من الأجيال القادمة لأن هذه الأجيال كانت في حكم «اللامفكر فيه» داخل هذا الخطاب. في حين أنك في الحال الثانية تقوم فعلاً من أجل الظفر بالحكم الإيجابي لدى الأجيال القادمة، وبعبارة أخرى هو فعل من أجل إلقاء الحجة وإبراء الذمة تجاه التاريخ وتجاه الأجيال القادمة.
ينطوي هذا الهوس بتسجيل المواقف للتاريخ على حال من العجز عن القيام بأي فعل سياسي حقيقي، وهو يصدر عن موقف نفسي متزعزع تجاه التاريخ والأجيال القادمة، وكأن الواحد من هؤلاء الفاعلين السياسيين يتوقع قساوة الاتهامات التي ستأتيه من الأجيال القادمة، فيعاجلها بمواقف استباقية تضمن له براءة الذمة وتقوم له مقام العذر وتجنبه حكم الأجيال القادمة القاسي.
وفي المقابل من هذا، كان قادة الهيئة مدفوعين بعنفوان الأمل في الفعل والإنجاز من أجل حاضرهم ومن دون كبير اكتراث بغايات التذكير أو مدا البصر صوب المستقبل والأجيال القادمة التي ربما تتذكر وتحكم، وربما تنسى فيكون نسيانها بمثابة الحكم السلبي.
وحين يكون غرض الفعل السياسي أن يسجل مواقف للتاريخ فإن يحكم على نفسه أن يكون فعلاً من أجل الذكرى، وعادة ما تكون الأجيال القادمة هي المقصودة بهذه الذكرى. ولذلك لم يكن خطاب الهيئة يكترث بمثل هذه الأفعال، بل إن عبدالرحمن الباكر حين شرع في كتابة سيرة نضاله ونفيه إلى سانت هيلانة افتتح الكتاب بكلمات تبدد أول ما تبدد هذا الهوس بالذكرى والتذكير، فيؤكد أن كتابه هو صورة صادقة لقصة كفاح الشعب في البحرين، إلا أن هذه القصة ليست «للعبرة والذكرى» لأن حوادث هذه القصة لم تكن أساساً من أجل تسجيل مواقف للتاريخ. هل هذا نفور من الذكرى والتذكير؟ أم هو تعبير عن إحساس حاد بالزمن الراهن المباشر (هنا والآن)؟ أم هو انعكاس لما يتسم به الخطاب من عنفوان الأمل في الفعل والإنجاز؟ وهل تضعضع هذا النوع من الأمل يحول الفعل السياسي إلى «فعل تواصلي رمزي» غرضه أن يبلغ «رسائل» عبر مواقف سياسية لكل من التاريخ والجمهور والحكومة والقوى الإقليمية والدولية كما هو حال الخطاب السياسي اليوم؟ ستكون الإجابة عن هذه الأسئلة هي محور مقالنا للأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1383 - الإثنين 19 يونيو 2006م الموافق 22 جمادى الأولى 1427هـ