قبل شهر وأربعة أسابيع بالتمام والكمال، بلغت السادسة والخمسين من العمر، وهو كما يقال فوق المتوسط المعلن لعمر الإنسان في سورية والبلدان التي تماثلها بحسب معلوماتي المحكومة أصلاً بولادتي وعيشي في منطقة محكومة بمحدودية تبادل المعلومات وتدفقها بسبب الرقابة المفروضة على الانترنت وعلى بعض المطبوعات، التي تسرب معلومات قد لا ترضي حكومة بلدي.
والسبب في إعلان عمري، رغبتي في تقديم ملخص سيرة على نحو ما يفعل كل الذين يتقدمون بطلب للحصول على سمة هجرة إلى سفارة بلد ما، بعد أن عجزت - أو هكذا خيل إلي - عن استمرار العيش في بلدي بعد كل هذا العمر الطويل، الذي عانيت فيه من صراع عميق بين رغبتي في العيش على نحو ما يعيش بقية البشر ورغبة السلطات في أن أعيش على هواها. فأتنفس كما تريد، وآكل عندما ترغب، وأنام في المكان الذي تحدده، ولا أتكلم إلا بما تسمح به أجهزتها. ومنذ وعيت الدنيا من حولي في أواخر خمسينات القرن العشرين، وأنا أحاول توافق العيش بين رغبتي ورغبة الحكومات المتوالية، والتي لم تكن تختلف عن بعضها كثيراً في الموقف من طريقة عيشي المرسومة بحال الطوارئ وأنظمة الاستثناء والتعليمات والأوامر التي يصدرها أي كان.
لقد أمضيت السنوات العشرين الأولى من عمري حالماً بأن التغيير يأتي بجهد الآخرين ومنهم، وعملت في السنوات العشر التالية على أن أكون في قوة التغيير، التي ستفتح أفقاً جديداً في الحياة، لكن نتيجة المرة الثانية، لم تكن أفضل من سابقتها في الفشل، وهذا ما دفعني في العشرين عاماً التالية، إلى أن أتجه للمراقبة والمتابعة عن بُعد مع الاهتمام بأسرتي ونفسي محبطاً في نتائج العمل العام بعد كل ما عانيناه من سياسة الثمانينات، التي قتل فيها من قتل وسجن من سجن، وهاجر من هاجر، وتلهى الجمهور بأي كان، وأغلق معظم الناس أفواههم خوفاً أو حيطة أو تأجيلاً لطاقتهم إلى وقت الحاجة.
وفي أواخر الخمسين عاماً، داعبت السنوات الست الأخيرة حلماً قديماً لي في أن أعيش مع غيري ما تبقى من العمر بصورة مختلفة، أو أن نمهد لحياة أفضل لأبنائنا تجنبهم ما واجهناه من خرابات ودمارات، جعلتنا خارج حياة تجاوزتنا من جوانب مختلفة شعباً وبلداً. وهكذا أعادت السنوات الست الأخيرة إلى الواجهة مشكلتنا الأساسية في أن نعيش حسب ما نشتهي، أو نعيش كما ترغب الحكومة.
ولأننا - على نحو ما نعتقد - أدركنا كم تغير العالم من حولنا، مما يتطلب أن نتغير وتتغير حكوماتنا، فقد فتحنا الباب باتجاه الحوار والمصالحة والاصلاح والتغير بصورة هادئة ومتدرجة من دون استثناء أو استبعاد أو إقصاء، لأن «الناس سواسية كأسنان المشط»، ولأن بلدنا بظروفه بحاجة إلى جهد كل واحد من أهلها، ولأننا يجب أن نتجاوز الماضي من أجل المستقبل على رغم مآسي ذلك الماضي، لكن صوتنا بقي من دون صدى، وكل ما سمعناه، لم يكن سوى غموض الكلام المختلط بمدائح، لا تخلو من تهديدات علنية ومبطنة، وذم يقترب من حدود الاتهام بـ «الخيانة»، أو يهدد بها، وقد تجاوز الأمر ذلك إلى أن يضرب البعض منا علناً من مراهقين ترعاهم الأجهزة الأمنية، أو يزج بآخرين في السجون بتهم تكاد تكون مضحكة!
ست وخمسون سنة من عمري، أمضيتها متنقلاً في مراحل متناقضة بين رغبتي في حياة طبيعية في شكلها ومضمونها، وأخرى استثنائية، تصر الحكومة على فرضها علي، وحتى لا أكسر إصرار حكومتي وصمودها في وجه مطلبي الذي لم يبق كثير من العمر لتحقيقه، قررت أن أعلن نفسي سورية برسم الهجرة، منتظراً أن يصلني إشعار من دولة ما بقبول هجرتي إليها، وهو أمر أرجو ألا تعارضه الحكومة، لأنها اعتادت معارضة كل ما رغبت فيه بما في ذلك تطبيع حياتي
العدد 1381 - السبت 17 يونيو 2006م الموافق 20 جمادى الأولى 1427هـ