العدد 1381 - السبت 17 يونيو 2006م الموافق 20 جمادى الأولى 1427هـ

الصومال: قبائل ودولة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الفوضى التي تعصف بالصومال منذ قرابة الشهرين ليست نتاج تحولات طارئة استجدت على هذا البلد العربي المسلم. فما يحصل هو نتاج تراكم أزمات تولدت في سياق متغيرات طافت على دول «القرن الإفريقي» منذ تسعينات القرن الماضي. فهذه المنطقة الاستراتيجية كانت محط أنظار الدول الكبرى التي خططت مراراً للسيطرة على هذا الموقع الممتد جغرافياً من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي. فالصومال يمتلك سواحل يبلغ طولها أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتراً وهذا ما أعطى ميزة للبلد بالاشراف على خطوط التجارة الدولية التي تعبر باب المندب وتربط البحر المتوسط بآسيا من خلال قناة السويس.

هذه المساحة الساحلية الطويلة فتحت شهية الدول الكبرى للتحكم بها وتحولت إلى مجال مواجهات إقليمية شاركت فيها تدخلات متنوعة من البلدان الأوروبية. وأسفرت تلك التدخلات عن تشكيل محاور دولية تنافست للاستيلاء على هذا المنفذ البحري المهم. واستمر هذا الصراع الدولي يجرجر نفسه إلى حين إعلان استقلال الصومال وخروج إيطاليا (البلد المستعمر) منه. ومنذ لحظة إعلان الاستقلال تنافست أميركا والاتحاد السوفياتي لوضع اليد على هذه التركة الثمينة. ونجحت آنذاك موسكو في تسجيل هدف في مرمى الولايات المتحدة واستطاعت أن تجعل من الصومال محطة للعبور والانطلاق منه في معركة القرن الإفريقي.

النجاح السوفياتي في الصومال شكل خطوة مهمة لنجاحات مستمرة حققتها موسكو آنذاك في مواجهة واشنطن والاستعمار الأوروبي. واستخدم الكرملين هذا الموقع لتأسيس أهم المطارات العسكرية في شرق إفريقيا. وباتت مقديشو إلى جانب عدن (اليمن الجنوبي الاشتراكي آنذاك) وإثيوبيا (الماركسية) تشكل قوة إقليمية ثلاثية قادرة على سد المنافذ على محاولات التسلل الأميركية.

بقي الحال على حاله إلى أن ظهرت في الاجواء عواصف سياسية تنذر بانقسامات قبلية ومناطقية. والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة الأنظمة التي نهضت في عدن ومقديشو واديس أبابا. ففي ا ليمن الجنوبي انفجرت صراعات أهلية بين رفاق القبائل الماركسية. وفي إثيوبيا قام نظام مستبد أسهم في تجويع الهضبة الحبشية وجرجرتها إلى صراعات دموية. وفي الصومال قام نظام فردي يعتمد البيروقراطية الحزبية وسيلة للسيطرة الكلية على المجتمع. وفي المجموع العام تخلفت الدول الثلاث وتراجعت مكانتها وباتت الأنظمة تشكل ثقلاً على الناس.

الاستبداد إذاً كان الجسر الذي نقل تلك المجتمعات البسيطة (الرعوية) من حال الانسجام الطبيعي إلى حال الانقسام السياسي. وبسبب سيطرة الدولة الكلية على مرافق المجتمع ومنافذه نجحت الأنظمة المنغلقة في قطع مجالات العمل والزرق عن الناس، وتحويل القوى المنتجة إلى فصائل سياسية منطوية على مناطقها تمارس مهنة التحريض على النظام من موقع القبيلة والدفاع عن مجالها الزراعي وحدودها الرعوية.

الاستبداد إذاً كان السبب الذي شجع الناس على الانكفاء عن الدولة والتراجع إلى القبيلة. فهذه الدول أصلاً كانت في حال متدهورة من التبادل الاقتصادي ولم تكن بعدُ تطورت من نمط المعاش القبلي إلى دائرة اوسع تشرف على تنظيم مصالحها وعلاقاتها هيئة أعلى. ومثل هكذا مجتمعات تحتاج دائماً إلى دول معتدلة تتوسط بين القبائل تمهيداً لإعادة تركيب أمزجتها في إطار دستوري يضمن المساواة ويفتح قنوات الاتصال والتبادل بين بعضها بعضاً.

ما حصل في الصومال كان العكس تماماً، حين اقدم الرئيس السابق محمد سياد بري على تأسيس سلطة فردية/ حزبية لا تراعي التقاليد والعادات ولا تحترم المعتقدات والتوجهات الدينية. ولذلك، وبسبب هذا التوجه الاستبدادي اعتمد النظام «اليساري» على دعم سوفياتي ليستمر في حكم مجتمع متدين ومتشكل من قبائل منتشرة على ضفاف السواحل.

استمر هذا الحال على حاله حتى انهار الاتحاد السوفياتي تاركاً رعاياه في عدن ومقديشو واديس أبابا من دون رعاية. وبعد أن اختفى «الأخ الأكبر» من الشاشة الدولية شهدت تلك الدول سلسلة انهيارات متتالية أسهمت في تمزيق الأنظمة وبعثرتها إلى مراكز قوى سياسية موزعة على المساحة الجغرافية التي تنتشر فيها القبائل.

مشهد الانهيار الاسوأ كان في الصومال بسبب امتداده السواحلي من جيبوتي في البحر الأحمر إلى كينيا في المحيط الهندي. وهكذا تمزقت دولة محمد سياد بري وانشطرت بداية إلى ثلاثة اجزاء: أرض الصومال، وبلاد بونت، وما تبقى ترك مساحة مفتوحة للصراع القبلي أطلق عليها بقايا الصومال.

هذه المساحة المفتوحة تحولت إلى ساحة للتزاحم والتنافس ولم تبق قوة تملك طموحات إلا وتدخلت. حتى الولايات المتحدة في عهد بوش الاب تورطت في تلك المساحة وتلقت ضربات موجعة كانت كافية للانسحاب من ذاك المكان الذي لا تعرف «شعابه» سوى تلك القبائل المتنافسة التي شكلت ميليشيات (أمراء حرب) تمارس هواية القتال من دون قدرة على التوصل إلى صوغ هوية جامعة تؤسس قواعد دولة معتدلة ومشتركة.

الآن دخلت «المحاكم الإسلامية» على خط الصراع. وهذه المحاكم تكتسب قوتها من شرعية دينية مضافة إليها سلبيات خلفتها حلقات أنظمة من الاستبداد المتوارث عن الاستعمار الأوروبي زاده الصراع القبلي فوضى دائمة أهلكت الزرع والضرع والعباد.

ما يحصل في الصومال منذ قرابة شهرين هو نتاج تراكم سلبي مارسته هيئات سياسية استندت إلى مرجعيات «خارجية» وأيديولوجيات مصطنعة هبطت على أرض تقودها القبيلة. والنتيجة لمثل هذه المعادلة المفروضة بالقوة تفكك الدولة إلى قبائل ثم نهوض قوة توحيدية مناهضة تطلق على نفسها اسم «المحاكم الإسلامية». وبغض النظر عن هوية هذه «المحاكم» فإنها على الأقل تشكل ردة فعل موضوعية عن فوضى أسهم الصراع الدولي في تشكيلها أو التشجيع عليها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1381 - السبت 17 يونيو 2006م الموافق 20 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً