أنهت دول «منظمة شنغهاي» قمتها في الصين في أجواء دولية اتسمت بالسلبية. فهذه المنظمة التي مضى على تأسي
أميركا أيضاً أشارت إلى قلقها من احتمال نمو نفوذ منظمة شنغهاي ودخولها على خط المنافسة الدولية. فالولايات المتحدة وجهت انتقادات سياسية إلى قيادة المنظمة وعاتبتها على توجيه دعوة إلى حضور إيران جلسات القمة، بصفتها عضواً مراقباً. إلا أن ملاحظات أميركا السياسية تخفي بعداً اقتصادياً يتصل بذاك النمو الذي نجحت الصين في تحقيقه في العقود الثلاثة الأخيرة. فواشنطن باتت على علم بأن تقدم الصين في مختلف الميادين سيجعل منها القوة الاقتصادية الأولى في العقدين المقبلين. وهذا الأمر في حال حصوله ستصبح أميركا الدولة الثانية، مضافاً إلى هذا الاحتمال ترجح الكثير من الهيئات الدولية أن تصبح الهند في العقود الأربعة المقبلة الدولة الثانية وستتراجع أميركا إلى المرتبة الثالثة.
المخاوف التي صدرت عن الاتحاد الأوروبي لها ما يبررها. كذلك تلك الانتقادات السياسية التي أشارت إليها التعليقات الأميركية بشأن حضور إيران كدولة مراقبة. فالعالم فعلاً يتغير ومراكز القوى ستتغير بالضرورة إذا استمر الثقل الاقتصادي يتراكم في مكان ويتطور من دون وجود منافس فعلي يحد من نشاطه أو يعطل عليه تقدمه على مختلف المستويات.
حتى الآن مضى على تأسيس منظمة شنغهاي خمس سنوات. وبدأت الفكرة متواضعة، إذ ضمت إلى جانب الصين روسيا الاتحادية وأربع دول كانت سابقاً تشكل جزءاً من الاتحاد السوفياتي المنهار. فالدول الأربع كانت تخضع إلى نظام شيوعي تسيطر عليه عقلية حزبية بيروقراطية أسست منظومة علاقات اقتصادية اعتمدت نظريات عامة أدت إلى إنهاء الدولة وتقويضها في سرعة زمنية قياسية.
هذه الدول التي خرجت حديثاً من تحت مظلة سياسية مستبدة كانت ولاتزال مسلمة في دينها وتاريخها. لكنها بسبب خضوعها لذاك الجدار السوفياتي العازل فقدت توازنها وكادت أن تخسر هويتها الحضارية والثقافية. الآن تحاول هذه الدول وهي: كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان استعادة شيء من توازنها التاريخي انطلاقاً من سياسة البحث عن شريك جغرافي يشكل لها العمق الاستراتيجي للسوق الاقتصادية. فالدول الأربع ليست قوية في بنيانها الاجتماعي نظراً إلى تلك الاختراقات السكانية التي أحدثتها روسيا القيصرية أولاً والسوفياتية ثانياً. فالدول الآن مسلمة، لكنها تضم أقليات روسية تم تصديرها من الشمال لتغيير بنيتها السكانية وهويتها الثقافية. وبسبب ضعف هذه الدول البنيوي فإنها وجدت في توسيع دائرة السوق فرصة تاريخية للتحرك في مجالها الجغرافي بالتعاون والتفاهم والتنسيق مع الجارتين الكبيرتين: الصين وروسيا.
روسيا بحاجة إلى هذه الدول الأربع أيضاً، فهذه الدولة الكبرى (الأوسع عالميّاً في مساحتها الجغرافية) تعاني تاريخياً من وقوعها خارج مدار المياه الدافئة، الأمر الذي فرض عليها دائماً تقديم تنازلات لمصلحة تمرير سلعها من هذا المنفذ البحري أو ذاك. كذلك تحتاج موسكو إلى إعادة صوغ علاقاتها التاريخية مع دول كانت تشكل جزءاً من مظلتها السياسية. فهذه الدول الأربع تملك ثروات طبيعية (نفط وغاز) وتحتل موقعاً استراتيجيّاً في قلب آسيا. وكذلك فهي تطل على تخوم حدودية قريبة أو متصلة بالصين والهند وأفغانستان وباكستان وإيران وبحر قزوين وصولاً إلى تركيا. وهذه السلسلة من الدول الإقليمية تتمتع بسوق وثروات وتكتلات بشرية واعدة، وهناك تحليلات كثيرة تشير إلى أن منطقة أوراسيا (أوروبا وآسيا) ستكون في العقود المقبلة ذاك المفصل (البرزخ) الاستراتيجي لعبور البشر والبضائع من آسيا إلى أوروبا والعكس.
حضور إيران قمة شنغهاي كان إشارة واضحة إلى تلك التحولات المفترض حصولها في العقدين المقبلين، فإيران دولة صاعدة وتملك ثروات وامكانات بشرية واعدة وتطل على الخليج الممتد إلى بحر العرب والمحيط الهندي، وإيران في حال استخدمت علاقات الجوار الجغرافي مع باكستان تستطيع أن تشكل معها ذاك المنفذ البحري، إضافة إلى ممر استراتيجي لنقل النفط والغاز إلى أسواق آسيا.
منظمة شنغهاي التي اختتمت أعمالها أمس الأول بتوقيع عشرة اتفاقات ليست هيئة بسيطة. فهي في الأمد القريب/ البعيد تشكل خطوة نوعية في سياسة تعديل موازين القوى وتغير مراكز الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق.
القلق إذاً ليس مفتعلاً كذلك تلك المخاوف التي صدرت بشأن مشاركة إيران في قمة شنغهاي. فهذه القمة عقدت في الصين التي تشكل الآن واسطة العقد والبديل الدولي الصاعد. كذلك روسيا التي فقدت مجالها الحيوي في أوروبا بخروج الدول الشرقية وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق من تحت مظلتها تحتاج إلى هذه المنظمة. فهذا الخروج أضعف روسيا أوروبيّاً وضغط عليها للبحث عن بدائل آسيوية ومنافذ بحرية تخفف عنها عبء الانطواء السياسي والعزلة الجغرافية.
العالم يتغير إذاً وهناك تحولات منظورة وغير مفهومة إلا أنها واضحة كالشمس بالنسبة إلى دول كبرى كالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. فالشمس حين تعاود شروقها من آسيا فإن الغروب عن الغرب يحتاج إلى سنوات. والسنوات تحتسب هذه المرة بالعقود وليس بالقرون
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1380 - الجمعة 16 يونيو 2006م الموافق 19 جمادى الأولى 1427هـ