الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس الأميركي جورج بوش إلى بلاد الرافدين جاءت في وقت متزامن مع استطلاعات رأي تشير إلى ارتفاع شعبيته بنسبة في المئة بعد الإعلان عن مصرع الزرقاوي. فالرئيس التي تعصف به الرياح في داخل الولايات المتحدة حاول استثمار تلك الواقعة لتوجيه رسالة إلى دافع الضرائب أن إدارته لم تفشل وهي قادرة على صنع إنجازات وعدت بتحقيقها سابقاً. هذا التزامن تصادف أيضاً مع متغيرات محدودة منها تشكيل حكومة عراقية تراهن واشنطن عليها في ضبط الأمن ووقف الانهيار الشامل التي ضرب استقرار الرافدين من جنوبه إلى شماله.
إلا أن بوش الذي يواجه أزمة كبيرة يحتاج إلى الكثير من الأخبار قبل اقتراب موعد الانتخابات التشريعية النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فمقتل الزرقاوي لا يكفي للادعاء بتحقيق بطولات معنوية هي في النهاية وهمية ولا تزيد أو تؤخر من تلك الفوضى العارمة التي ضربت الرافدين. وتشكيل حكومة برئاسة المالكي لا يقدم لواشنطن الشيء المطلوب للإعلان أمام الرأي العام الأميركي أن الولايات المتحدة حققت مرادها من غزو العراق. فالاحتلال أصلاً لم يحصل من أجل تحقيق هذه الأغراض. ومقتل الزرقاوي هو نتيجة للاحتلال كذلك تشكيل حكومة المالكي.
المأزق إذاً لايزال يراوح مكانه. ومشكلة بوش واقعة بين نهرين: الأول الانسحاب من العراق تاركاً حكومة المالكي تواجه خليفة الزرقاوي. والثاني تمديد الاحتلال والاستمرار في تحمل مسئولية الخراب الذي أحدثته قواته في العراق.
بوش حتى الآن لم يقرر الخطوة المطلوبة. فهو يؤكد يومياً أن الاحتلال ليس باقياً إلى الأبد. ثم يؤكد يومياً أن الاحتلال باق مادامت الحكومة العراقية بحاجة إليه. وبين ضغوط الحزب الديمقراطي الأميركي ومطالباته المستمرة بالانسحاب وبين الخوف من الفشل الكامل يتفاقم مأزق بوش مع تسارع الزمن. وتحت وقع الانفجارات اليومية والفضائح والصفقات والنهب والتقاتل السياسي والتزاحم على محاصصة الغنيمة تبدو لحظات بوش قاسية لا تخفف من ثقلها بعض الأخبار السارة التي تأتيه أحياناً لترفع من معنوياته وتشد من أزره.
ما ارتكبه الاحتلال من كوارث ومغالطات وتداعيات يفوق التصور. ومحاولات بوش للهروب إلى إيران مرة أو للتراجع إلى سورية مرة أخرى لا تكفي لتغطية تلك المصائب التي جلبها معه وأورثها للشعب العراقي لأجيال مقبلة.
الزيارة الخاطفة التي قام بها بوش ولم يعلن عنها إلا بعد وصوله بغداد تكشف بوضوح عن ذاك المدى الذي بلغته أزمة احتلال الرافدين. فالزيارة شبه السرية حاولت استثمار مصرع الزرقاوي، ولكنها أيضاً تعطي فكرة عن الافلاس الذي وصلت إليه سياسته الهجومية التي خططت للحرب ولم تلحظ احتمال وقوع تلك التداعيات السلبية. وهذه السياسة التي خططت للخطوة ألف ولم تفكر بالخطوة باء توضح مقدار ذاك الخلل الذي تأسست عليه استراتيجية تبين لاحقاً أن صانعيها لا يعرفون جيداً ما يسمى «الشرق الأوسط» ولا يدركون طبيعة ردة فعل الناس ولا الآليات التي تحرك مشاعرهم وعلاقاتهم.
طاقم بوش صمم الجغرافيا العسكرية لمجال عملياته الحربية ولم يدرس تاريخ الجغرافيا وثقافة الشعوب التي تعيش في تلك الدائرة التي تتحكم في سياساتها المحلية مجموعة شروط يصعب على غرفة القيادة في مبنى «البنتاغون» فهم رموزها وألغازها.
بوش الآن وبعد ثلاث سنوات من تقويض دولة العراق في حِيرَة من أمره. ماذا يفعل بعد كل الذي حصل؟ وماذا يمكن أن يضيفه إلى كل الكلام الذي قاله على امتداد الأسابيع والشهور؟ فهو اتهم دمشق مراراً بأنها تقف وراء عمليات المقاومة. كذلك وجه الاتهامات نفسها إلى طهران. وأيضاً تهرب من مسئوليته المباشرة محاولاً توزيع المسئوليات على كل الأطراف من تنظيم «القاعدة» إلى بقايا حزب صدام وصولاً إلى شبكات عالمية تحترف الإرهاب.
بوش فعلاً في حِيرَة من أمره. ماذا يمكن أن يقول بعد؟ وما هو الجديد الذي يستطيع إضافته على القديم سوى التبجح بإنجازات سياسية (انتخاب برلمان وتشكيل حكومة) ليست سوى إفرازات طبيعية لتحولات قسرية حصلت في بلاد الرافدين.
لا جديد عند بوش سوى تكرار الكلام السابق وتحميل حكومة المالكي مشقة تبعات ما حققه الاحتلال من كوارث. فالرئيس بوش وعد المالكي بالمساعدة واستجاب لطلب حكومة بغداد تمديد فترة الاحتلال بذريعة عدم قدرة قواتها على ضبط الأمن وحماية مقراتها الرسمية. هذا الجديد قديم. كذلك إشارته إلى إيران ورفضه ما أسماه بتدخلها في شئون العراق. فكل ما ذكره في زيارته الخاطفة لا يتطلب عناء السفر ولا يحتاج إلى هذا الجهد الشخصي وتكلف مشقة الطيران من كامب ديفيد إلى الرافدين.
المسألة إذاً تحتمل طرح أكثر من سؤال. أما أن بوش أراد أن يتعرف على الواقع الميداني تمهيداً لدراسة العناصر الموجبة التي تبرر اتخاذ قرار الانسحاب وفق جدول زمني مبرمج تنتهي مدته مع نهاية عهده. وإما أنه اراد توجيه رسالة قريبة جغرافياً من إيران ويريد تذكيرها بوجوده العسكري في العراق.
الاحتمالان الأول والثاني يضعان بوش في مأزق الاختيار بين نهرين أما الانسحاب وترك المياه تجرف ما تبقى من بلاد الرافدين، وأما المغامرة من جديد مراهناً على بطولات معنوية ليس بالضرورة أن تكون صحيحة سياسياً.
بوش فعلاً في حِيرَة وسياسته تعيش ضغوط النهرين فهو أما أن يغادر أطلال العراق معترفاً بالهزيمة وأما أن يغامر ويقرر الهروب من الهزيمة إلى مساحة جغرافية لن تكون نتيجتها السياسية سوى توسيع دائرة الأطلال وتعميم الخراب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1378 - الأربعاء 14 يونيو 2006م الموافق 17 جمادى الأولى 1427هـ