من الأصدقاء التونسيين الذين تربطني بهم علاقة صداقة طيبة وزير الثقافة إبان عهد الرئيس بورقيبة فرج الشاذلي، وكان الوزير الأول آنذاك محمد المزالي. ويقطن الشاذلي في بيت جميل في تونس العاصمة لا يخطئ زائره أثاث المنزل الراقي والمختار بعناية، وكذلك اللوحات والتحف، وينم ديكور المنزل ولمساته عن ذوق رفيع.
وقد انتدبته منظمة اليونسكو لزيارة الكويت بعد تحريرها من الغزو العراقي، وعاين الوزير فرج الدمار والخراب الذي لحق بمتحف الكويت وبقطاع الثقافة فيها وما اشتملت عليه من مواقع سياحية. وكانت زيارته التفقدية هذه محل تقدير وتنويه من قبل المنظمة العالمية المذكورة، وكذلك من قبل دولة الكويت، إذ أشاد فرج باستقباله هناك وبالضيافة الكريمة التي حظي بها.
وقد دعاني الشاذلي مرتين لزيارة منزله في مدينة «المنستير» الساحلية الجميلة، وهي مسقط رأس الزعيم الراحل بورقيبة، وكذلك يوجد منزل الوزير الأول المزالي. ودعاني فرج إلى تناول الطعام الشعبي وهو «الكسكسي» بأنواع متعددة من الأسماك اللذيذة التي تشتهر بها تونس. وأنا شخصياً أفضله على الكسكسي بلحمة العلوش أو الخروف، وهي أكلة شعبية مشهورة في تونس وفي سائر بلدان المغرب العربي، ولكل بلاد طريقتها في إعداد هذا الطبق الشعبي اللذيذ.
وفي عصر هذا اليوم مشينا ناحية ساحلها البحري الجميل واستمتعنا بنسمات عليلة، وفي هذه المدينة حضرت تشييع جنازة الرئيس بورقيبة الذي توفي صباح السادس من أبريل/ نيسان ، وفي عصر اليوم التالي توجهت من بين سفراء آخرين إلى مقر حزب التجمع الدستوري الحاكم، وانتظرت ساعتين في طوابير طويلة، وسجلت كلمة عزاء باسم البحرين حكومة وشعباً. وتدوين كلمة العزاء يستغرق عدة دقائق، ولاحظت أن السفير البريطاني لم يقف مثلنا في الطابور بل تجاوزه، وكان معه مرافق، ويبدو أن التقيد بهذا النظام يتبع داخل بريطانيا العظمى، أما ما وراء البحار فلا يستقيم هذا الأمر المنطقي مع واقع الحال، ولاسيما في دول العالم الثالث، فقام مرافقه بتسجيل كلمة العزاء كتابة.
وكان من المفترض أن تصل طائرة الوزير البحريني ماجد الجشي الخاصة إلى مطار «المنستير» حيث يقدم العزاء هناك باسم حكومة البحرين، إلا أن الطائرة هبطت لأمور فنية، وقد تكون أمنية، في مطار تونس، وأصبح من المناسب أن أذهب إلى «المنستير» لحضور موكب الجنازة صباح اليوم نفسه. وتوجهنا إلى فندق سقانص حيث كان مقراً لتجمع الدبلوماسيين والوفود الرسمية، وكانت هناك «أوتوبيسات» كبيرة معدة أقلتنا إلى مكان بداية موكب العزاء.
كانت جنازة الراحل محمولة على عربة مدفع وتجرها مركبة عسكرية. وكان في مقدمة الموكب الرئيس زين العابدين بن علي والوزير التونسي الأول وبقية الوزراء وكبار المسئولين، وتابعنا نحن الدبلوماسيين تلك الصفوف الرسمية ومشينا وسط جموع غفيرة واقفة على جانب الطريق لمسافة كيلومتر. لمحت النساء وهن يولولن وينطلق من حناجرهن الصراخ والبكاء والعويل وهن في غاية التأثر والألم. أما الرجال فكانوا يرددون «الله أكبر» بأصوات مرتفعة.
كانت المنطقة خاضعة لطوق أمني محكم، ومرت أمامنا مفرزة من رجال الصاعقة غطوا وجوههم بأقنعة سوداء لا تكاد تبين منها إلا أعينهم لشدة حرص الدولة على أمن وسلامة الحضور. مشينا إلى ساحة المقبرة إذ أقيمت صلاة الجنازة على الرئيس بورقيبة الذي أعد في حياته هذا القبر إذ ووري فيه جثمانه. وألقى الرئيس زين العابدين بن علي كلمة شاملة وجامعة، مشيداً بدور بورقيبة الوطني وكفاحه ضد الاستعمار الفرنسي إلى حين تحرير الوطن. شاهدت الرئيس الفرنسي شيراك والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، وفي ختام مراسم الدفن صافحنا الرئيس بن علي وقدمنا له العزاء الأوفر والمواساة في فقيد الوطن، وباسم البحرين حكومة وشعباً. كما قدمنا تعازينا إلى ابن الزعيم السيد الحبيب بورقيبة الابن. لاحظت أن مراسم العزاء والدفن اتسمت بالتنظيم والدقة والانضباط. والتقيت الوزير الجشي عصر ذلك اليوم بعد عودتي من المنستير، وكانت فرصة سانحة أن أرافقه في طائرته الأميرية الخاصة عند عودته إلى البحرين صباح اليوم الثاني، وهذه هي المرة الثالثة التي أستقل فيها طائرة بحرينية خاصة في حياتي. وكانت مناسبة لاستعادة الذكريات التي ربطتني بالوزير ماجد الجشي، في رحلة استغرقت أربع ساعات ونصف الساعة
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1378 - الأربعاء 14 يونيو 2006م الموافق 17 جمادى الأولى 1427هـ