العدد 1378 - الأربعاء 14 يونيو 2006م الموافق 17 جمادى الأولى 1427هـ

في اللون وخديعته

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في اللون شيء من المرجع النفسي، لا شيء جازما في اللون. لا شيء نهائيا وحاسما. فقط هو اتكاء على نوع من الاشارات التي يتم وفقها وعلى أساسها بناء استنتاج وتحليل، لكن الأمر في النهاية لا يعدو كونه محاولة، أو ملامسة لحال وواقع معقد ومربك.

للألوان صفات يعكسها كثيرون على الأشخاص المصابين بهوسها. ثمة علاقة قائمة بين استدراج الشخص الى علاقته باللون، وما ينتج عن ذلك الاستدراج، على الأقل في صورته الأولية.

على سبيل المثال ارجاع اللون الأصفر الى الموت... الاحتضار... الغيرة، ضرب من التخرص. فقط لأن للطبيعة (النبات) شروط بقائه بعيداً عن تفاصيل معقدة في النفس الانسانية، واشتهائها وتمردها وقدرتها على إحداث المعجز من دون أن تسبق ذلك اشارات أو دلالات.

يحتضر الشجر بعلائقه، الأغصان، الأوراق، مثل ذلك الثابت ليس بالضرورة أن يسري على الانسان اذا ما وضعنا التفاصيل المعقدة في الاعتبار.

الأصفر سيد... مشع وأمضى بالأمل من الوقت والنظر والظرف. الأصفر صفة أخرى لصفاء البصيرة، وصفاء الصوت، وصفاء الصورة، وصفاء الصيت.

ماذا عن عاهل الألوان جميعها: الأسود؟ بعضهم يرتجل فيحيله الى صفة الموت، اليأس، الاحتباس، السجن، التيه. فيما هو على النقيض من ذلك تماماً.

هو ذاته اللون الذي رافقنا مع بدء نشأتنا. ربما لأننا بعيداً عن المدارك والخيارات لم نك نملك صوتا عاليا للاحتجاج عليه، لكنه حتى مع توافر تلك المدارك، سنظل في حال تعايش معه من دون أدنى تذمر أو احتجاج.

العالم في صورته الحالية لم يبدأ نهارا. بدأ ليلا، وثمة تلازم بين الليل/ الأسود، وبين الموت، وبين النهار/ الضوء، وبين المعاش/ الحياة. وقراءة سريعة لتركيبات عدد من الآيات القرآنية تحيلنا الى تلك التراتبية المنطقية والعلمية في آن.

المتمسكون والمنحازون الى الأخضر، كثيراً ما يعانون من اتساع وامتداد مساحات «الرمادي» في تفاصيل حياتهم، ما يجعلهم متمسكين بالنقيض منه. يعون تماماً أنهم في حالات لا تتسق والمباشر من مدلولات ذلك اللون، لكنهم في مساحة من اللاوعي يجدون أنفسهم منقادين الى رمزية اللون ودلالاته في بحث - ليس بالضرورة أن يكون منطقيا - عن حال الذهول، وربما الضياع، وأحياناً الانفلات.

في اللون الزهري (الوردي) حكاية، له ارتباط بحال من العودة الى صورة من الطبيعة. في صورة السلام في رمزيتها: الوردة. ثمة إشكال هنا يقف عليه بعض علماء النفس يشير الى حال من التعويض، ومحاولة البحث عما يخفف من وطء القلق والحيرة والتصنع واختلاط الخيارات، محاولة صريحة (مغلفة) للانفصال - ولو مؤقتا - عن القائم والماثل والواقعي من صور وتماثلات الحياة لدى المنحازين الى ذلك اللون.

في الصميم من ممارسة أولئك، هم على النقيض تماما مما يكتنز به ذلك الرمز. بعيدون في صورة ملفتة عن مدلولاته وتجسيداته ومؤدياته. الذين يعانون من ندرة في حال السلام، يرون في الرمز فائضاً من تلك الحال تسري فيهم، حتى ليكادوا يؤمنون أنهم كذلك.

وفي البنفسجي حكاية أكثر تعقيدا من سواها. لون له صفة الختل والتمويه. تراه عن بعد: أسود، أزرق، أخضر، أحمر. عليك أن تتمتع بنظر حاد كي تميز كل ذلك الختل والتمويه. ومن لم ينله نصيب من حدة البصر تلك، عليه أن يعيد النظر في خياراته ، ما لم يكن متورطاً في حال من التحفظ والتوجس في علاقاته مع الآخرين. وأحيانا تمردهم في تلك العلاقات، وعن بعد تراهم أكثر تحملا وثباتا وامكانات تعزيز تلك العلاقات. بمعنى آخر: كلما نأوا عمن لهم مساحة في القلب والروح، كان ذلك أدعى للسلامة، وكلما حدث النقيض، كان في ذلك ايذان بشر مستطير.

وفي الأزرق حال من الصدق مع الخيار. يكشف ذلك عن حال من تطابق في النفس وما يمثلها وما يوحي بالدال عليها، ما يشير الى المفاتيح المؤدية اليها.

الأزرق بامتياز، تعبير صارخ وحقيقي عن تماثل في حال نفسية - وإن بدت مضطربة أو على غير وفاق مع ما تريد - تسعى إلى أن تبحث عن المميز والاستثنائي والملفت فيها. يقودها اللون ضمن ترميزات متناثرة بالجملة في المحيط من حولها الى أن تقرر في اختيارها. اختيارها لتجاوز منعطفات ومحطات صعبة وفارقة في حياتها. الأزرق بحر من خيارات اعادة النظر في القائم والماثل، وما يبدو انه مؤبد في النفس.

الأبيض أكثر الألوان تعرضاً للافتراء عليه في الخيارات. بدءا بالمصاب بالانفصام الشخصي، مرورا بالمحترف حالات الانتحار، وليس انتهاء بأمير جماعة ارهابية ( عليكم أن تلاحظوا أن أشهر لون وشعار لأشهر المنظمات الارهابية في الولايات المتحدة الأميركية يظل قرينا بها). وفي ذلك جانبان: جانب ان ضحايا تلك المنظمات مصيرهم الى قبر، وفي جانب آخر ان تلك المنظمات تذهب في الاتجاه النقيض من الحياة. مع اصرارها على انها تعمل على جعل الحياة أكثر نقاء واستمرارية بالتخلص ممن تعتقد أنه خارج الجنس الآري.

لا يفارقنا الأبيض في توجه الى واحدة من فرائض الاسلام للتطهر والتعهد بالعدول عن الخطايا والمعاصي التي ترمز الى الأسود. نلف في كفن في طريقنا الى العالم الآخر. نرفع الرايات البيض تعبيرا عن السلام أو الاستسلام! نخرج من دائرة ظلام الجهل باللون الأبيض في لوح أسود. مراسم بدئنا للحفاظ على النوع البشري (الزواج) تبدأ بالأبيض. كل تلك الدلالات في اللون لا تعبر بالضرورة عن كف عن معصية، عن (الأسود) ولا تعبر بالضرورة عن اننا سنقابل الله بصحيفة بيضاء لمجرد كفن أبيض، ولا تعبر بالضرورة عن حال من السلام، وما أكثر الرايات البيض التي رفعت في التاريخ، كما أنها لا تعبر بالضرورة عن الاستسلام، لأنه ثمة رايات رفعت في هذا الصدد فاقتصت لنفسها بعد حين، ولا تعبر بالضرورة عن امكان خروجنا من نفق الجهل بطبشور أبيض على لوح أسود، كما أن مراسم بدئنا للحفاظ على النوع البشري لا تحسم بالضرورة حفاظنا على العميق من تلك العلاقة، وإن لم نسهم بمخلوق في درس ذلك الحفاظ

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1378 - الأربعاء 14 يونيو 2006م الموافق 17 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً