سياسة الضوضاء التي تتبعها إدارة جورج بوش تشبه كثيراً سياسات الغوغاء التي كانت تتبعها الأحزاب الايديولوجية في عصر الاتحاد السوفياتي. فتلك الأحزاب كانت دائماً ترفع شعارات الدفاع عن الإنسان والحرية والسلام في وقت كانت الممارسات تعاكس تلك الأفكار النبيلة والشريفة.
أميركا الآن وفي عهد هذه الإدارة الجمهورية تحولت إلى قوة عالمية ترفع شعارات تدعي الدفاع عن الحريات والحقوق و«الديمقراطية» في وقت تشن الحروب على الشعوب وتقوض الدول وتهدم اقتصادات قائمة لمصلحة فوضى السوق. فهذه الإدارة حولت الولايات المتحدة إلى دولة تقود اقتصادها مؤسسات التصنيع الحربي وشركات النفط. وهذا النوع من الاقتصاد يحتاج دائماً إلى وقود وحروب حتى يواصل تطوره وتقدمه في قيادة حلقات الإنتاج وإعادة توظيف النمو في مجالات تصب في إطار تعزيز الجناح العسكري في قطاعات الدولة.
وتعتبر سياسة الضوضاء التي تحدث الضجيج الإعلامي بشأن اقتصاد السوق والرفاهية والتوازن الاجتماعي والتأمينات والضمانات الصحية مجرد غطاء القصد منه الهاء الرأي العام بوجود مخاطر تهدد أمنه واستقراره ومستقبله تمهيداً لاقناعه بضرورة تعزيز ترسانة الحرب ورفع موازنة الدفاع لحماية وجوده من احتمال تعرضه لهجمات تخطط لشنها منظمات مجهولة الهوية وغير معروفة العنوان.
هذه السياسة تحولت إلى استراتيجية ثابتة في عهد بوش ولم تعد تقتصر على النفاق الداخلي بل توسع نطاقها العالمي إلى درجة لا توفر دولاً كبرى كروسيا الاتحادية والصين الشعبية. فنائب الرئيس ديك تشيني (زعيم مافيات النفط) انتقد موسكو وتهجم على سياسة الرئيس فلاديمير بوتين متهماً اياه باستغلال ارتفاع أسعار النفط واستخدام الفائض النقدي لتطوير القطاعات العسكرية ورفع موازنة الدفاع. الرئيس الروسي رد على تصريح تشيني وكشف بالأرقام مقدار الأكاذيب الأميركية بشأن سياسة بلاده الدفاعية.
وكرر الأمر نفسه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد (زعيم مافيات صناعات التسلح) حين هاجم بكين وانتقد الصين مراراً متهماً قيادتها السياسية برفع موازنة الدفاع وزيادة نسبة الإنفاق العسكري. الصين ردت على الاتهامات وكشفت بالأرقام بأن نسبة انفاقها أقل بكثير من حصة الفرد الأميركي.
هذه التهجمات التي أعادت رسم خطوط جديدة لنوع مختلف من «الحرب الباردة» كان القصد منها توجيه رسالة داخلية لدافع الضرائب الأميركي تبرر له أسباب انفاق الإدارة الهائل على هذه القطاعات الحربية، كذلك تخويف دول الجوار المحيطة بالصين وروسيا بغية اقناعها بضرورة شراء أسلحة من الولايات المتحدة والاعتماد عليها لضمان أمنها من مخاطر محتملة قد تصدر مستقبلاً عن موسكو وبكين.
إنها مسألة نفاق. والنفاق حتى تكتمل شروط حلقته الجهنمية لابد من تغطيته بالانفاق العسكري وزيادته إلى مستويات عالية بلغت الآن مرحلة جنون العظمة. فالعظمة الدولية تحتاج إلى قوة للترهيب والتخويف، وهذا لا تستطيع أن توفره للعالم دولة تكتفي بالتحدث عن نموذج للرفاهية والديمقراطية من دون تعزيز تلك الصورة الباهتة بسلوك غوغائي يعتمد الضوضاء لإخفاء المعالم والوقائع الميدانية.
هذا النفاق كشفه تقرير صدر عن «المعهد الدولي للأبحاث من أجل السلام» في ستوكهولم أفاد بأن الانفاق العالمي على التسلح ارتفع بنحو , في المئة في العام مقارنة بالعام . وأشار إلى أن الانفاق زاد من مليار دولار في العام إلى ملياراً في العام ، أي بزيادة مليار دولار. وحمل التقرير الولايات المتحدة مسئولية الارتفاع الهائل في حجم الانفاق. فهذه الدولة التي تدعي الدفاع عن الحريات ونشر «الديمقراطية» في العالم تنفق وحدها نسبة تتراوح بين و في المئة من الانفاق العالمي على التسلح. إذ بلغت حصة الفرد الأميركي ما يعادل دولارات مقابل دولاراً للفرد في العالم. أي أن كل أميركي ينفق عشرة اضعاف كل إنسان في الأرض. وتأتي «إسرائيل» بعد الولايات المتحدة في نسبة انفاقها على التسلح وموازنات الحرب، إذ تبلغ حصة الفرد فيها سنوياً دولاراً.
أميركا وحدها أنفقت في العام أكثر من مليار دولار ويرجح أن ترتفع موازنتها الحربية في العام الجاري إلى ملياراً. وتطالب الآن إدارة جورج بوش الكونغرس بفتح اعتمادات إضافية لتوسيع حجم الانفاق على قواعد عسكرية وصواريخ من نوع جديد. وكل هذا يتم ترويجه باسم «الحرية» و«السلام» و«العدالة» ونشر «الديمقراطية».
إنها فعلاً سياسة نفاق والنفاق كما يبدو أصبح في عهد الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» يحتاج يومياً إلى ضوضاء تتحدث عن مخاطر مفتعلة لتبرير الانفاق العسكري وفتح اعتمادات لمزيد من الحروب المصطنعة تقودها مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1377 - الثلثاء 13 يونيو 2006م الموافق 16 جمادى الأولى 1427هـ