العدد 1376 - الإثنين 12 يونيو 2006م الموافق 15 جمادى الأولى 1427هـ

الدولة والتحديق والخلوة المحرَّمة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

«»... ليس هذا تاريخاً لحدث بعينه، بل هو عنوان لواحدة من روايات الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل، وربما هي أشهر رواياته بعد «مزرعة الحيوان». وفي هذه الرواية يصور أورويل العالم وقد انقسم إلى ثلاث دول كبرى: أوشيانيا، أوراسيا، إستاسيا. وكلها دول شمولية استبدادية يحكمها حزب حاكم يرأسه «الأخ الأكبر» الذي يراقب كل شيء، بما في ذلك سلوك كل فرد، بل حتى مشاعر الناس وتفكيرهم وأحلامهم وكل ما يدور في خاطرهم. ولا أحد من الناس يعرف إن كان هذا «الأخ الأكبر» حقيقة أم مجرد خيال، لكن الناس يرون صوره في ملصقات كبيرة وضعت على الجدران والشوارع والمنازل، وجميع هذه الملصقات تقول: الأخ الأكبر يراقبك! «BIG BROTHER IS WATCHING». فصار الكل يشعر أنه مراقب وتحت الضوء وموضوع لتحديق مركز من قبل «الأخ الأكبر». إلا أن أخطر أدوات المراقبة في هذه الدولة كان عبارة عن جهاز يسمى تيليسكرين، وهو شاشة مسطحة كبيرة تقوم بعرض برامج وأغاني وأخبار الحزب الحاكم، وكذلك بمراقبة الناس، ويقوم هذا الجهاز بإرسال الصور واستقبالها من منزل كل أسرة إلى «الأخ الأكبر». وهذا جهاز لا يمكن إغلاقه أو حتى كتم صوته فهو يعمل بشكل دائم. وبفضل هذا الجهاز صار «الأخ الأكبر» هو أقوى الفاعلين في المجتمع لأنه ببساطة الجهة الوحيدة التي ترى كل شيء وتراقب كل فعل من دون أن تكون هي مرئية أو موضوعاً للمراقبة.

أن تحتكر الرؤية وتستأثر وحدك بالتحديق يعني أن تكون في موقع القوة. وهذه حقيقة تعرفها كل الدول اليوم. والحق أن الدولة - أية دولة - إنما تضمن قوتها الاستثنائية من خلال التحديق في كل شيء يقع تحت حدودها من بشر وشجر وحجر، بحيث تنفتح العيون على آخرها، ويتم تشديد النظر وإدارة حدقة العين في كل اتجاه؛ ليتأتى للدولة وأجهزتها الإحاطة بكل شيء، ورؤية كل شيء ساكن أو متحرك، صغير أو كبير. وبحسب المفكر الفرنسي المعروف ميشيل فوكو، فإن نجاح الدولة أو أية سلطة انضباطية إنما يعود إلى استعمال أدوات وتقنيات بسيطة منها تقنية يسميها النظرة التراتبية، وهي طريقة هرمية في الرؤية تسمح للدولة أن تتمتع بقدرة نافذة على رؤية الجميع ومراقبتهم بحيث يكون الجميع مرئيين ومكشوفين أمام جهاز خفي لا يرى إلا أنه يستطيع أن يرى كل شيء بنظرة واحدة، و«من نقطة مركزية تشكل في آنٍ واحد مصدر ضوء يضيء كل الأشياء، ومكان تلاقٍ لكل ما يجب أن يعرف: عين كاملة، لا يفوتها شيء ومركز تتجه نحوه كل الأنظار». ولا تترك هذه العين - الدولة وأجهزتها - أية منطقة ظل مجهولة، بل كل شيء ينبغي أن يكون مضاء ليكون مكشوفاً بدرجة كافية تسمح بالتحديق.

من هنا يكتسب التحديق أهميته، ومن هنا أيضاً تظهر حاجة الآخرين - ممن هم موضوع للتحديق - إلى مقاومته إما بتعطيله أو بقلبه. وهذا تحديداً هو ما يجعل التحديق مصطلحاً متداولاً في الدراسات النسوية، ذلك أن المرأة اعتادت أن تكون محط نظر الرجل، أي موضوعاً ينظر الرجل إليه ويحدق فيه، وهي لا ترد على هذه النظرة بنظرة مضادة ليكون الرجل هو موضوعاً للنظرة والرغبة. ولهذا تختزن المرأة في نفسها وجهة النظر الذكورية لتصبح بذلك مراقبة لنفسها، وبهذا ينظر الرجال إلى النساء، فيما النساء ينظرن إلى أنفسهن. وبهذا تظل المرأة محكومة بضرورة التصرف بطريقة تجعلها موضوعاً للمشاهدة دائماً من خلال التحديق الفعلي أو المفترض. أي أنها دائماً ما تكون موضوعاً للتحديق الذكوري.

والتحديق بهذا المعنى مفهوم قريب من الاستعمال الشعبي لمفردة «الحداق» في الصيد البحري، وهو قريب أيضاً من التعريب العامي لمفردة التحديق الإنجليزية Gaze «الكز»، فكل هذه أنشطة تنطوي على فعل تحريك حدقة العين وفتحها على آخرها من أجل الإحاطة بموضوع التحديق/ الحداق/ الكز بغية الإيقاع به.

وينطوي التحديق، في كل هذه الأنشطة، على علاقات قوة تجعل من صاحب التحديق هو الطرف الأقوى، ومن موضوع التحديق هو الطرف الأضعف. ويظهر مؤشر النجاح في فعل التحديق حين يشعر من هو مقصود بالتحديق أنه مرئي ومراقب حتى لو لم يكن هناك عيون ترى وأجهزة تراقب. ولذلك، فالتحديق هو أساس قوة الدولة، ولهذا لا تعترف الدولة، وتحت أي ظرف من الظروف، بأخلاقيات التقوى التي تقوم على غض البصر تعففاً وصيانة لخصوصية الناس. فالعين ينبغي أن تظل مفتوحة، وتحديقها ينبغي أن يكون يقظاً في كل الأوقات وفي كل الاتجاهات تماماً كجهاز التيليسكرين في رواية . ولهذا السبب لا تسمح الدولة بأية خلوة مشروعة أو محرمة، لسبب بسيط وهو أن الخلوة تعطل فعل التحديق، وتقيّد من عمل جهاز التيليسكرين. ومع هذا فإن الخلوة لا تقلب فعل التحديق، ولكنها تحدّ من قدرته على التفرس وتركيز النظر. وهذا هو سر نفور الدول من الخلوات.

ووفق المنطق ذاته، لا تسمح الدولة بأن يتم قلب علاقة التحديق هذه، أي بأن تكون الدولة هي موضوع التحديق، فتصير مرئية مكشوفة في كل تحركاتها من قبل الآخرين. والسبب أن قلب علاقة التحديق هذه ينطوي على قلب علاقات القوة القائمة، ما يهدد بفقدان الدولة للكثير من أسباب قوتها التي تتأتى لها من كونها صاحبة النظرة التراتبية الأولى، وصاحبة العين المحدقة المتفردة بامتياز بين الجميع. ولذلك لا تسمح الدولة بقلب فعل التحديق. إلا أن تاريخ كل الدول يعرف ضروباً شتى من التحايل على تحديق الدولة وتفرسها المريب في مواطنيها، وأهم هذه الأشكال هو العمل السري والتنظيمات السرية، إذ يتحرك الجميع هناك في الخفاء وتحت الأرض وبعيداً عن أنظار التحديق. ويسمح هذا النوع من التخفي والسرية بإرباك عين الدولة المحدقة، ما يضطرها إلى الرد على السرية بسرية مضادة، فتنشط على إثر ذلك عمليات التجسس والأمن السري والشرطة السرية. وحين يصبح التخفي والسرية هما مدار اللعبة فإن قوانين اللعبة تتبدل واستراتيجية اللعب تختلف، فيصبح الأقوى هو من يقابل السرية بسرية أكبر، والتخفي بتخفٍ أعظم. وفي حال كهذه يصبح انكشاف أي طرف وتعرضه لبصيص من الضوء هو الهزيمة بعينها. كما هو الحال مع الخلوة فإن العمل السري لا يقلب فعل التحديق ضد الدولة، ولكنه ضرب من ضروب التحايل يجري اللجوء إليه من أجل إضعاف قوة الدولة المستمدة أساساً من كونها ذلك «الجهاز الضخم الذي يَرى من دون أن يُرى». وقد عرفت البحرين هذا النوع من التحايل على تحديق الدولة طوال سبعة عقود من تاريخ بناء الدولة وتوسع عمليات التحديق والمراقبة. وهو تاريخ انقضى بكل ثقله مع إطلاق مشروع الإصلاح الوطني، وما صاحبه من حلّ التنظيمات السرية، وقبول الجميع بشروط اللعبة الجديدة بالظهور إلى العلن والعمل فوق سطح الأرض لا تحتها. وكان الكل ينتظر أن تنتهي سياسات التحديق وأن تعطل الدولة جهاز التيليسكرين الضخم. وطبعاً ذهب المتفائلون منا إلى ما هو أبعد من هذا التوقع، فتصوروا أن الدخول في مدار الديمقراطية سيصيّر الاخوة الصغار - المواطنين - محل الأخ الأكبر، فبدلاً من الدولة التي تحدق في كل شيء وتراقب كل صغيرة وكبيرة في سلوك الناس وتفكيرهم ومشاعرهم، بدلاً من هذا سيصبح الناس في موقع أقوى يسمح لهم بمراقبة دولة «الأخ الأكبر» من خلال قلب فعل التحديق على الدولة التي سيكون عليها أن تلتزم بمبادئ الشفافية، وأن تنشر معلومات أكثر عن أنشطتها، أي أن تكون الدولة هي موضوع التحديق هذه المرة.

هل صدقت التوقعات؟ وهل تحقق القليل مما ذهب إليه المتفائلون منا؟ أتصور أن إلقاء نظرة سريعة على جملة مؤشرات بدأت في الظهور خلال هذا العام كفيل بأن يجيب عن مثل هذه الأسئلة، ومن هذه المؤشرات: موقف وزارة التنمية الاجتماعية من جمعية الشفافية، حجب المعلومات الانتخابية، التكتم على الموعد النهائي للانتخابات، الموقف من خلوة المغرب. كل هذه مؤشرات تؤكد أن الدولة لاتزال إلى اليوم تمارس فعل التحديق في كل شيء، ولاتزال تحتكر المعلومات بما هي مصدر القوة الأهم في علاقات التحديق، وبما هي الموقع الذي يسمح للدولة أن ترى كل شيء من دون أن تكون هي في الوقت نفسه مرئية ومكشوفة للجميع.

التحديق إذاً هو مصدر من مصادر القوة؛ ولهذا لن تفرّط فيه الدولة بسهولة، ولا يتوقع أنها ستفرط فيه على الأقل في المدى القريب. ولهذا لا يتصور أن تتنازل الدولة عن احتكار المعلومات، ولا ينتظرن أحد من الدولة لا مزيداً من الشفافية، ولا قبولاً بالخلوات المشروعة أو المحرّمة، بل كل الخلوات محرمة لأنها تضعف من قوة فعل التحديق وتشوش عمل جهاز التيليسكرين الضخم

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1376 - الإثنين 12 يونيو 2006م الموافق 15 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً