يقول الرئيس الأميركي السابق ابراهام لنكولن: «كفى بالفضيلة فضيلة، أن يدعي بها من ليس أهلاً لها، وكفى بالرذيلة رذيلة، أن ينفر منها من هو أهل لها». وفي زمن صعب اختلط فيه الشريف بالدنيء، المجاهد بالسفاح، الشهيد بالقتيل، يظل اسم أبومصعب الزرقاوي رقماً صعباً في أجندة المسلمين، رجل أشار إليه البعض بشيخ المجاهدين، بينما اعتبره آخرون بأنه شيخ الذباحين، ورقصت لمقتله الشوارع الملطخة بالدماء... فيا ترى ما الذي يجعل الأوراق تختلط؟
كأن التاريخ يعيد نفسه في العراق، وكأن الحجاج بن يوسف الثقفي، واقف في المشهد نفسه، فعندما اعتلى إمارة الكوفة أسس خطاباً استبدادياً قائماً على تهديد أهل العراق المعارضين للنظام السياسي والتوجه الديني الذي يمثله، إذ دخل المسجد الجامع في الكوفة، واعتلى المنبر وخطب: «والله إني لأرى رؤوساً أينعت وقد حان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى، والله يا أهل العراق إن أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مكسراً فرماكم بي، لأنكم طالما أثرتم الفتنة، واضجعتم في مراقد الضلال، والله لأنكلن بكم في البلاد ولأجعلنكم مثلاً في كل واد، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، وإني يا أهل العراق لا أعد إلا وفيت، ولا أعزم إلا أمضيت (...) فاستوثقوا واستقيموا واعملوا ولا تميلوا وتابعوا وبايعوا، واجتمعوا واستمعوا، فليس مني الإهدار والإكثار وإنما هو هذا السيف». نقلاً عن «المستطرف في كل فن مستظرف» لشهاب الدين الأبشيهي. ووفى الحجاج بوعده إذ سلط سيفه على رقاب رجال العراق وشيوخهم، وها هو يعترف أمام خالد بن يزيد بن معاوية ذاكراً سبب التنكيل بهم «ولقد ضربت بسيفي أكثر من مئة ألف كلهم يشهد أنك وأباك من أهل النار، ثم لم أجد لذلك عندك أجراً ولا شكراً». كما جاء في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني.
وها هو أحمد فاضل نزال الخلايله، القادم من قبيلة بني الحسن الأردنية، المعروف بأبي مصعب الزرقاوي، نسبة إلى مدينة الزرقاء الأردنية، ينتهج منهج أبي الحجاج الثقفي، فبعد أن تقلد منصب أمير تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» الذي هو فرع تنظيم «القاعدة» في العراق، أطلق خطاباته التهديدية عبر تسجيلات صوتية، توعد فيها أهل العراق بحرب شاملة، إذ جاء في خطابه «هذا بيان للناس ولينذروا به»، والمؤرخ في أكتوبر/ تشرين الأول ، ما يشير إلى عزمه على قتال المسلمين الشيعة في جميع أنحاء العراق «أينما وجدوا وحيثما حلوا جزاءً وفاقا»، إذ «لن تأخذنا بكم رأفة». كما أنه أفتى بجواز قتل عناصر الأمن العراقي، إذ يقول: «فحكمه القتل وهدم منزله». كما طالب الزرقاوي في خطابه جميع طوائف العراق «التي تريد أن تنأى بنفسها عن ضربات المجاهدين، فلتبادر بالبراءة من حكومة الجعفري وجرائمها».
اتكل الزرقاوي في خطاباته على النسج التاريخي لبعض قيادات التاريخ الإسلامي المشهود لها بالدموية، فخطابه الموجه إلى بوش: «أما أنت كلب الروم بوش أبشر بما يسؤك وانتظر بعون الله أياماً عصيبة وستندم أنت وجنودك على اليوم الذي وطأت فيه أرض العراق». وقد جاء مشابها لرد هارون الرشيد على كتاب إمبراطور الدولة البيزنطية نقفور العامهـ: «من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام»!
ولم يكن الأمر على مستوى الخطاب فحسب، بل تعدى إلى التقليد بسيرة بعض القيادات، فيشير إلى ما يسمي نفسه سيف العدل (المسئول الأمني في جيش قاعدة الإسلام العالمي)، والذي يؤرخ لسيرة أبومصعب الزرقاوي بقوله: «كان أبومصعب معجباً بشخصية القائد الإسلامي الفذ نورالدين زنكي، الذي قاد عملية التحرير والتغيير التي أكملها البطل صلاح الدين الأيوبي، ولذلك كان يسأل دائماً عن أي كتاب متوافر عن نورالدين وتلميذه صلاح الدين، وأعتقد أن ما قرأه عن نور الدين وانطلاقه من الموصل في العراق، كان له دور كبير في التأثير على أبومصعب، في اختيار الانتقال إلى العراق، بعد سقوط حكومة الإمارة الإسلامية في أفغانستان». توجه الزرقاوي إلى العراق من أجل إقامة دولة إسلامية خلفاً لنظام صدام حسين، إذ تهدف جماعته بحسب تعبيرها إلى «إقامة مجتمع إسلامي»، وأعلنت الجهاد ضد الكفار في بلد غير بلاده، إذ ان هذه الجماعات لا موطن لها، وتتحدث وكأن أمر الشعوب موكل إليها، فانتهجت مبدأ العمليات الانتحارية، إذ نفذت في العراق أكثر من عملية - حسبما ذكره نائب أسامة بن لادن أيمن الظواهري - لم تفرق فيها بين المسلمين والكفار.
يبدو أن الزرقاوي تورّط في العراق ولم يجد فيها مساحة كافية للتحرك، فبدا يتخبط، إذ لم يساهم بسلوكه القتالي، في التخفيف من معاناة العراقيين، بل حاول جرهم إلى حرب طائفية، وبدأ بتقليب السنة على الشيعة، فقد طالب أهل السنة في كلمة موجهة إليهم، أن يهبوا من سباتهم لمواجهة ما أسماه بـ «حرب طائفية منظمة»، ويشير بالنص بقوله: «تعددت المعارك وتنوعت المسميات والهدف واحد... حرب صليبية ضد أهل السنة». ومضى موجهاً حديثه إلى رجال الدين قائلاً: «ويحكم يا علماء أهل السنة... أهانت عليكم أعراض نسائكم. أين نخوتكم ومروءتكم».
تمادى الزرقاوي في طغيانه، إذ فاجأ العالم في شريط مصور وهو يقطع بيديه رأس مواطن أميركي في مايو/ أيار ، كما أشرف على تنفيذ ثلاثة تفجيرات في العاصمة الأردنية (عمّان) في نوفمبر/ تشرين الثاني أدت إلى قتل شخصاً. وعلى رغم ذلك، وجد من يؤيده، ويصفق ويهلل له بحجة أن هذا الأسلوب الدموي الشاذ والمنحرف هو الحل، بل أكثر من ذلك عوّل عليه كثيرون في أن يكون قائداً للأمة، فبأي عقل يفكرون، وعن أية كرامات يتحدثون؟
إنها أوهام العاجزين الذين يعيشون على الأساطير. فهل يمكن لرجل دموي يتباهى بالنحر وقطع الرؤوس، أن يكون قائداً لخير أمة أخرجت للناس؟ وكيف يبررون قتل الأطفال والشيوخ والعزل؟ وبأي حق تحز النحور؟ وعلى أي مبدأ تفجر القباب والمساجد؟ إنها لأفعال يندى لها الجبين، لكن لكل طغيان نهاية، ولكل مسرحية ستار
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1376 - الإثنين 12 يونيو 2006م الموافق 15 جمادى الأولى 1427هـ