«ثمة خيط رفيع من الضوء يلوح في الأفق والكرة الآن في الملعب الإيراني»، هكذا قرأ سفير دولة عظمى هنا في طهران زيارة سولانا للعاصمة الإيرانية.
لقد كانت زيارة مهمة فعلاً للمسئول الأوروبي الكبير بعد غياب يزيد على العام عن العاصمة التي لطالما زارها إبان عهد الرئيس السابق محمد خاتمي محذراً ومتوعداً!
لكنها المرة الأولى التي يأتيها واعداً متفائلاً بشوشاً يحمل في جعبته أكياساً من «الحلوى» الموعودة وإن يكن لم يفتح أياً منها بحسب التوافق لكنه لم يستعرض أيضاً التهديدات والتواعدات التي سبق أن اعتاد عليها كلما كان يزور طهران من قبل!
فسولانا اليوم في طهران غير سولانا قبل أكثر من عام، فهو اليوم ممثل لمجموعة الـ + ، أي بالإضافة إلى تمثيله للترويكا الأوروبية التي اعتاد على تمثيلها فإنه جاء هذه المرة حاملاً مقترحات «الرزمة» الشهيرة ممهورة بالإضافة إلى توقيع الترويكا بتواقيع كل من روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية.
إذاً، إنه ممثل واشنطن أيضاً هذه المرة بالإضافة إلى حليفي طهران السياسيين والاقتصاديين في ملفها النووي. وبالتالي من حقه أن يفرح ويبتسم ويكون مزهواً بنفسه وبتمثيله أكثر مما يكون منشغلاً بمضمون ما يحمل من «حلوى» وتحذيرات لإيران!
وهي المرة الأولى ربما التي يستقبله فيها الإيرانيون بسلاسة ورحابة وتفاؤل ولكن بحذرهم المعهود أيضاً!
الساذجون وحدهم هم الذين ضغطوا ولايزالون على إيران لتقول نعم نهائية «لزومة» الغرب حتى لو كانت مبهمة وغامضة.
أما العقلاء والحكماء والعارفون ومنهم حتى كوفي عنان فإنهم قد نصحوا إيران بـ «التجاوب» حتى مجرد التجاوب والتأني والمطالعة الطويلة ومن ثم تقديم الردود المدروسة!
لذلك ولغيره فقد جاء الرد الإيراني بـ «نعم» ولكن! وهو التصرف المعتاد أصلاً من جانب الإيرانيين!
والمنزعجون من هذه «النعم» المشوبة بـ «كلا» إما سذج فعلاً أو هم دلالون يخافون فقدان دورهم أو من جماعة المنبهرين بكل ما يأتي من وراء البحار ولاسيما إذا كان لماعاً فيظنونه ذهباً!
لكن الإيراني الذي يحمل في ذهنه وعقله الباطني وخزائن تجاربه التاريخية المر أكثر من «الحلو» في تعاطيه مع القوى الكبرى القارية والبحرية الغربية والشرقية فإن حساباته كانت ولاتزال حذرة دوماً حتى باتت جزءاً لا يتجزأ من «عقيدته» العامة.
والذين يعرفون مذهب أو مدرسة «التقية» التي يتمسك بها الإيرانيون عموماً والشيعة من المسلمين بالإجمال يفهمون تماماً ويدركون معنى السلوك الإيراني الحذر المشار إليه أعلاه. إذ تقول خلاصة أو عصارة هذه المدرسة: «احفظ ذِهابَكَ وذَهَبك ومَذْهَبك».
وفي حال التعاطي مع ملف شامل وجامع مثل الملف النووي الإيراني وخصوصاً عندما يعرض في إطار مقترح «الرزمة» أو الصفقة كما يحلو للبعض أن يطرحه، فمن حق الإيراني هنا أن يتأنى طويلاً قبل أن يعلن استراتيجيته النهائية فيما هو ذاهب إليه من أهداف وغايات، عامة وشاملة وما يمتلك من أوراق ثمينة وغير ثمينة ومنهجه المناسب في التعاطي مع كل طرف ومع الأطراف المجتمعة في مجموعة مقترح «الرزمة»!
ولذلك جاء رده الأولي على محاور المقترح الأساسية كالآتي:
نعم للتجاوب العملاني والتقني مع مجموعة ما يسمى «بالمحفزات» المادية، ولكن لا للوقف الشامل والنهائي لمكتسبات التخصيب.
ونعم للمشاركة في صناعة الأمن الإقليمي المشترك ومستقبل المنطقة ولكن لا للانخراط في مهمات غامضة ومشبوهة فيما قد يطلق عليه مكافحة «الإرهاب» قبل التوافق على مفهوم مشترك لهذه المقولة وفصلها تماماً عن حق الشعوب في المقاومة والممانعة.
ونعم أخيراً للحوار والتعاون الدولي ومنه الحوار مع واشنطن ولكن بعد إقرار الأخيرة وإذعانها لحق إيران باختيار النظام السياسي الذي يناسبها ورفع يدها نهائياً عن التدخل في هذا الخيار وتقديم الضمانات المؤكدة لذلك.
ذلك أن ما قد يصفه البعض في الغرب أو الشرق بـ «المحفزات» قد يفسر في طهران على أنه «استعدادات» أو حتى «استفزازات» للتحايل ومن ثم الانقضاض على المشروع الإيراني الطموح من أجل كسر ممانعته وقدرته على استقلالية القرار ورفض التبعية.
من جهة أخرى فإن طهران إذ تدرك جيداً الجامع بين الدول + فإنها تدرك كذلك المانع في اجتماعها في حال أجابت وتصرفت وتعاملت وتعاطت بالمعقول مع مقترح «الرزمة»!
لذلك قالت: ثمة إيجابيات، وثمة أمور غامضة لابد من جلائها!
يقولون إن هناك إجماعاً لدى مجموع الـ + على منع إيران من التسلح النووي، وهو إجماع تشترك فيه إيران معهم، لكن مثل هذا الأمر عادة ما يتم إخفاؤه عمداً لغاية في نفس يعقوب! ومن ثم يتم إخفاء الشقة الواسعة التي تفصل بين الأطراف المختلفة داخل المجموعة في شكل ومضمون التعاطي مع إيران في حال فشل «التوافق» معها!
صحيح أن واشنطن قد تلجأ إلى خيارات من خارج الإجماع وقد تستعين أو لا تستعين بالمحرض الأكبر ضد إيران (أي «إسرائيل»)، إلا أن واشنطن القوية قبل العراق وأفغانستان غير واشنطن القوية بعد أفغانستان والعراق! هذا ناهيك أن إيران غير العراق! فضلاً عن أن العالم آنذاك غير العالم الآن.
نعم، ينبغي على إيران ألا تبالغ في الانقسامات الدولية من حولها وحول ملفها! وعلى إيران أن تدرك مدى جدية وخطورة الموقف العام المحيط بمثل هذه المناقشات! وعلى إيران أن تدرك مدى حاجة هذا الملف إلى منهج العقلانية والتدبر والصبر على الظلم والأذى والمعايير الدولية المزدوجة!
وقد تكون إيران بحاجة إلى أن تدرك أيضاً أن المطلوب ليس فقط إدارة الأزمة بنجاح بل والخروج من نفق الأزمة بأقل الخسائر عليها وعلى جيرانها وعلى أمن واستقرار المنطقة.
لكن المطلوب من النبهاء المتابعين أيضاً أن يدركوا أن الدنيا ليست مجموعة أمانٍ نبيلة فقط، بل إنها معادلات موازين قوى ومدى التقدير السليم للموقف أيضاً من عدمه، والبحث يطول في عالم «التقيات» الاستراتيجية
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1373 - الجمعة 09 يونيو 2006م الموافق 12 جمادى الأولى 1427هـ