لعدة أشهر حثت المستشارة أنجيلا ميركل ووزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير الرئيس الأميركي جورج بوش ليتفاوض مع طهران. والآن أعرب عن استعداد بلاده لتنضم للمفاوضات مما يكشف أن النزاع على وشك دخول مرحلة حاسمة ويضع إيران أمام خيارين: إما وقف تخصيب اليورانيوم أو تعرضها لعقوبات.
لم تجر مفاوضات علنية بين واشنطن وطهران منذ سنة. قبل وقت وجد الأميركيون ضرورة ملحة للحديث مع طهران بشأن العراق. حصل تجاوب في البداية من الجانب الإيراني ثم توجه وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي إلى بغداد وأعلن قطع الاتصال مع الأميركيين. هل كان هذا نهاية التقارب الحذر بين البلدين؟ بالتأكيد لا.
بعد أيام فقط كان متقي في إندونيسيا ثم في ماليزيا ليعلن تحولاً جديداً وأعرب عن استعداد بلاده للحديث بشأن كل شيء مع الأميركيين حتى بشأن تخصيب اليورانيوم شرط أن لا تقدم واشنطن شروطاً للمفاوضات. بالكاد نقلت وسائل الإعلام تصريحات وزير الخارجية الإيراني المشجعة رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية شين ماكورماك ليقطع طريق التفاؤل حين قال: «سمعنا مثل هذا الكلام مراراً وتكراراً».
لم تمر ساعة على الرفض الأميركي حتى صدر تحول عن الأميركيين أنفسهم فقد عرضوا التفاوض مع طهران. واضطرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس لتقرأ بصعوبة نص كلمة لتقول كلاما لم تكن لديها رغبة لتذيعه على الملأ. قالت: إن الولايات المتحدة قررت المشاركة بالمفاوضات التي يجريها الأوروبيون مع إيران إذا وافقت طهران على وقف برنامج تخصيب اليورانيوم. ولم تستبعد رايس أن يجري الحديث لاحقاً بشأن التجارة وشروط السفر والثقافة والعلاقات المالية. وكي تؤكد رايس حرص بلادها على إظهار النوايا الحسنة استدعت السفير السويسري، الوسيط التقليدي بين البلدين وطلبت منه نقل العرض الأميركي إلى طهران.
إنه اليوم الذي انتظره العالم بفارغ الصبر، أن تجري مفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. وقال منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا: «إن مشاركة الأميركيين في المفاوضات المباشرة مع إيران يزيد من ثقل هذه المفاوضات ويكشف عن رغبة مشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة في السعي للتوصل إلى اتفاق مع إيران». ثلاث سنوات كاملة عمل خلالها دبلوماسيون من لندن وباريس وبرلين بالتفاوض مع زملائهم في طهران لوضع نهاية للأزمة العالمية. الهدف الذي وضعه المجتمع الدولي دفع أي ثمن لمنع أن تصبح إيران دولة نووية. لكن المفاوضات ظلت عديمة النتائج.
طيلة الوقت كان الإيرانيون ينفون عزمهم استخدام اليورانيوم المخصب لأغراض عسكرية وكان آخرهم الرئيس محمود أحمدي نجاد في مقابلة خص بها مجلة «دير شبيغل» نشرت قبل أسبوع. لكن حصل أن تم ضبط خبراء إيرانيين وهم يبحثون عن التقنية النووية ما أدى لفقدان الثقة بإيران وراح النزاع يقترب خطوة بعد الأخرى من احتمال وقوع صدام مسلح جديد في منطقة الشرق الأوسط. وكانت الولايات المتحدة و«إسرائيل» فقط من تحدث عن خيار عسكري.
ثم جاءت الرسالة السعيدة من واشنطن التي فرحت بها برلين وصرح وزير الخارجية الألماني: «الآن نرى نافذة قد فتحت وينبغي استغلال الفرصة للتوصل إلى حل». منذ وقت بعيد لم تسر بوزارة الخارجية الألمانية أنباء مفرحة. وقام الدبلوماسيون المشاركون بالمفاوضات بتهنئة بعضهم بعضاً على استجابة الأميركيين لنداء الأوروبيين بالانضمام للمفاوضات. حتى وقت قصير مضى كان الألمان يخشون إعلان الجهود الدبلوماسية وأن يزيد احتمال الصدام المسلح في الشرق الأوسط. وقال مسئول بوزارة الخارجية الألمانية: «لو ظل الأوروبيون وحدهم في النهاية لوقعت كارثة».
الآن انتهت مرحلة اليأس وبدأت مرحلة التفاؤل. بعض المسئولين الألمان وجدوا في الموقف الأميركي الجديد تجاه إيران انتصاراً للسياسة الخارجية الألمانية. خلال زيارة ميركل وشتاينماير للبيت الأبيض في مناسبتين مختلفتين طلبا من الجانب الأميركي أن ينضم للمفاوضات الأوروبية مع إيران بحجة صعوبة التوصل إلى حل من دون الولايات المتحدة. بعد ذلك بحث شتاينماير مع ميركل كيف يمكن تشجيع بعض الدول على الدعوة إلى حل دبلوماسي. لذلك زار شتاينماير منطقة الخليج طالباً من دولها العربية التدخل لدى إيران. ومع الأوروبيين بحث شتاينماير وميركل نوعية العقوبات التي بوسع الأوروبيين تحملها، لكن روسيا والصين حذرتا من فرض عقوبات على إيران.
في الأيام الأخيرة سجل الألمان باهتمام حصول تحرك في الطرف الأميركي. كان شتاينماير يهم ليستقل الطائرة بعد عقده مباحثات في مسقط حين اتصلت به وزيرة الخارجية الأميركية. عاد شتاينماير إلى سيارته وأمضى عشر دقائق يعرض الأفكار الألمانية على المسئولة الأميركية بشأن النزاع مع إيران. بعد أربع أيام على عودته من جولته الخليجية عاودت رايس الاتصال بوزير الخارجية الألماني وقالت: إنها ستجتمع خلال عطلة نهاية الأسبوع مع بوش في كامب ديفيد وتريد الحصول من شتاينماير على آخر المستجدات. في بداية الأسبوع اتصل بوش هاتفياً بميركل ليزف لها نبأ ساراً وقال: إن الإدارة الأميركية ستعلن موقفاً جديداً.
غير أن هناك في الحكومة الألمانية من ينظر للموقف الأميركي الجديد بشيء من الريبة. ذلك أن العرض الأخير قد يكون خاتمة الجهود الدبلوماسية. وقال مسئول حكومي في برلين: ترى ماذا يحصل لو وضعت إيران العراقيل في طريق الحل الدبلوماسي؟ هل تتوقف عجلة الدبلوماسية؟ يشير الألمان إلى أن انعدام الثقة بين الجانبين الأميركي والإيراني تشكل أكبر عقبة منذ زمن أمام حدوث انفراج في العلاقات بين البلدين.
لو حصل ما يخشاه الجميع في برلين سيكون موقف الألمان صعباً. خلال التفاوض مع الأميركيين وافقت ميركل وشتاينماير على استخدام إجراءات مشددة مع أطراف المجتمع الدولي منها فرض عقوبات على إيران. ستضطر برلين لتكشف عن وجهها إذا رفضت إيران العرض الأميركي. أولى ردود الفعل من إيران لم تكن مشجعة وشكت برلين من عدم أخذ جميع السياسيين الإيرانيين العرض الأميركي على محمل الجد. فقد صرح وزير النفط الإيراني قاسم وزيري حومانه أن إيران لن تتفاوض أبداً مع الولايات المتحدة.
واضح بالنسبة للحلفاء الأوروبيين أن الرئيس الأميركي وضع قراره وغيّر موقفه تجاه إيران ليس عن قناعة بل لأسباب قاهرة. في مجلس الأمن الدولي لم يظهر ما يؤشر بوجود إجماع على قرار يدعو لفرض عقوبات اقتصادية على إيران بسبب رفض الصين وروسيا. كما وضع بوش صدقية الولايات المتحدة على المحك حين أمر بصرف مبلغ مليون دولار لدعم مساعي المعارضين الإيرانيين لقلب نظام الحكم في طهران. ثم ضغط الأوروبيون وألحوا على واشنطن كي تشارك في المفاوضات لتشجع دولاً أخرى على دعم موقف الغرب.
حتى وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر طالب بانضمام الولايات المتحدة للمفاوضات. يأمل الدبلوماسيون في واشنطن أن يكون بوش بخطوته عبّد الطريق أمام نهاية اللعبة الدبلوماسية: إذا تراجعت طهران عن موقفها الحالي فإنها تشرع الباب أمام قيام علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة. وإذا واصلت «المراوغة» كما يقول دبلوماسيون ألمان ستلجأ الولايات المتحدة لتحقيق هدف فرض عقوبات من دون مناقشات جديدة. تفكر واشنطن في الحالة الثانية بالتفاف الحلفاء الغربيين حولها والعمل معاً في فرض عقوبات. لذلك يجري جمع قوائم بأسماء الشركات ورجال الأعمال الإيرانيين في أنحاء العالم لاستخدامها حين تدنو ساعة الصفر
العدد 1373 - الجمعة 09 يونيو 2006م الموافق 12 جمادى الأولى 1427هـ