قد نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: لماذا انطلق الدين في كل حركة الإنسان؟ وهل المسألة التي يطرحها في الدعوة والتبليغ والإرشاد والوعظ هي أن نؤدي الطقوس بطريقة تقليدية قد نفقد فيها الكثير من الروح، لتكون شيئاً يثقل الروح بدلاً من أن تكون شيئاً يفتح الروح على رحاب الله وعلى آفاق الحياة؟ إن فهمنا للدين في آفاق الإنسان أنه جاء لإخراج الإنسان من سجن ذاته، ومن دائرة الخضوع للأصنام الحجرية والبشرية، إلى دائرة الحرية المنفتحة على الخالق سبحانه وتعالى، ومن خلاله على الكون كله. ولذلك، فإن الخضوع لله تعالى يعني العزة في الحياة كما يمثل الحرية في بعدها الإنساني العميق، لأن العبودية لله تعني أن نكون أحراراً أمام الكون كله. ولهذا كان الإمام علي (ع) يقول في بعض الفقرات الرائعة من أدعيته وكلماته: «إلهي كفاني عزاً أن اكون لك عبداً، وكفاني فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أريد فاجعلني كما تريد»...
ولذلك، فإن الإسلام أفسح في المجال للحرية الفكرية من حيث أتاح للإنسان أن يعيش إنسانيته في عمق حريته. كما كفل له الإسلام حرية التعبير والنقد والمساءلة والملاحقة أمام كل القيادات بالطريقة العلمية والموضوعية التي تغدو فيها المساءلة والنقد عنصرين أساسيين في تقويم التجربة وتأصيلها وتعميقها. ولذلك، كان تمثل الدين فيما هي النظرة الإسلامية يكمن في عمق الفكر الذي يحركه ويوجهه ويخطط له، لا في معنى الطقوس التي يتعامل بعض الناس معها بشكل جامد من دون فهم لآفاقها، فالدين يمثل حيوية الانفتاح الروحي والإنساني والفكري على الله المطلق وعلى الحياة كلها والواقع كله والكون كله، بل إن قيمة الدين تكمن في أنه يؤنسن الإنسان من حيث يفتح إنسانيته على آفاق الحرية فلا يتحجر في ذاته ولا يتجمد أمام طروحات الآخرين أو ينبهر أمامهم من دون أساس.
إننا نؤمن بأنك لن تكون حر الفكر ما لم يسع عقلك الحياة وما لم تطلق فكرك بحجم الكون، ولن تكون حر الفكر ما لم تنفتح على ثقافة الحياة وأدبها وعلومها وإنسانيتها وكيانها، ولاسيما ما نلحظه في واقعنا من طفرة علمية هائلة تترافق مع ذوبان للقيم التي تؤنسن الفكر وتمنحه الحيوية والمسئولية والعدل الذي يشكل أساساً وميزاناً على مستوى حركة الدين لنعرف أن ماهية الدين هي العدل أساساً. وإذا كانت المسألة كذلك، فإن من أساسيات العدل أن تعطي الفكر الآخر فرصة ليقدم نفسه أمام فكرك وليثير مكامن القوة التي تشكل جزءاً من شخصيته أمام شخصيتك الفكرية والمفاهيمية، لأن من حق من يختلف معك أن يطرح أفكاره وأن يتساوى معك في تقديم ما يملك من إبداعات أو إخفاقات للناس. ومن هذا المنطلق، نلاحظ أن الإسلام أفسح في المجال للفكر الآخر منذ البداية، في أن يتقدم إلى الواجهة ولم يمارس عملية احتكار الحقيقة حتى في القضايا التي هي بمثابة مسلمات غير قابلة للمساومة في العقيدة الإسلامية. فأفسح في المجال للحوار في أخطر العناوين حتى في الذات المقدسة وفي رسالة الرسول ويوم القيامة وما إلى ذلك. وأشار الله سبحانه إلى نبيه أن ينفتح بالحوار على المشركين والكافرين ليقول لهم: «وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين» (شبأ:)، بحيث يأخذ الفكر الآخر حريته في الطرح، وحريته على مستوى الجدال، شرط ألا تتحول المسألة إلى فوضى على مستوى الآليات والممارسة، وشرط أن يتم التسليم للحقيقة عندما تتجلى واضحة في حركة الحوار ونتائجه.
ولذلك كنا نصر دائماً على رفض ممارسة أية عملية قمع ضد الفكر الآخر، انطلاقاً من قاعدة العدل التي أكدها الإسلام ورفض من خلالها ظلم الآخرين، حتى وإن كانوا كفاراً. هذا إضافة إلى اعتقادنا الراسخ بأن عملية القمع التي تمارس ضد أي فكر لا يمكن أن تسقطه، بل إنها تتيح له الفرصة أكثر ليتحول إلى فكر شهيد يثير تعاطف الناس ودفعهم للاقتراب منه وحتى تبنيه والدفاع عنه، حتى لو كان خاوياً في كثير من الحالات، لأن الناس بطبعها تميل بطبيعتا إلى احتضان المظلوم، ولذلك فإن الوسيلة الفضلى لمواجهة الفكر الآخر تتلخص في إعطائه الحرية ليأخذ دوره ويطرح نفسه، وعندها سيتبين لنا مدى عدم واقعية إمكانية صموده أمام الحقيقة العلمية التي تضج بها المفاهيم الرسالية والإنسانية.
ولكننا كنا نؤكد دائماً أن هناك فرقاً بين حرية الفكر وحرية الشتيمة، لأننا إذا كنا نؤمن بأن يأخذ الفكر مداه في البحث العلمي وفي الطواف حول أسرار الكون وحتى في رصد المشكلات الإنسانية السياسية وغيرها، فإن حرية التعبير عن الأشياء، والتي يرصدها الفكر، لابد أن تخضع للضوابط الأخلاقية العامة، لأن ترك الأمور تسير في حركة الفوضى، بعيداً من رصد ردود الفعل، وخصوصاً في البيئة السياسية والاجتماعية القلقة، قد يتسبب بنتائج مدمرة وقاسية. إن مشكلتنا في هذا الجانب مع ذهنية الكثير من الإدارات الغربية أنها جعلت لعنوان حرية الفكر أو حرية التعبير، مسارات قانونية تلحظ المصلحة السياسية لهذه الإدارة أو تلك، أو تأخذ في الاعتبار ما تريده الإدارة الأميركية، فباتت شتيمة المسلمين ورموزهم والتعرض حتى للرسول الأكرم (ص) تدخل في نطاق حرية الفكر أو التعبير، بينما وضع أي نقد حتى ولو كان علمياً ضد «إسرائيل» في نطاق معاداة السامية، فأصبح كل من يمارس عملية نقد موضوعي للسياسة الإسرائيلية محل ملاحقة في الغرب، وقد رأينا كتاباً ومسئولين غربيين يدفعون ثمن مواقفهم بحجة الإساءة لحرية الفكر وعدم احترام حرية التعبير، لأن النقد مس السياسة الإسرائيلية التي يجب ألا تمس...
وإن علينا في مواقعنا العربية والإسلامية، وخصوصاً في لبنان الذي يتمتع بحرية إعلامية وسياسية كبيرة، أن نستفيد من هذا المناخ لنحركه في إدارة الحوار البناء بين اللبنانيين بكل تنوعاتهم، حتى يكتشف الشباب اللبناني بعضه البعض وحتى تتقارب الأفكار في الحوار المتنوع، ولكن من دون أن نفسح في المجال للإثارة التي قد تحمل عناوين سياسية يصار إلى إدخالها في المتاهات الطائفية التي تعيد البلد عقوداً إلى الوراء بدلاً من أن نتعلم جميعاً من جروحنا وآلامنا.
وإنني أخشى من أن بعض محاولات التشويه التي مورست من أطراف دولية وغير دولية ضد الساحة التي تحمل عناوين الممانعة في لبنان، وخصوصاً ساحة المقاومة، قد بدأت تتسلل بطريقة وبأخرى إلى الداخل اللبناني لإسقاط الهالة السياسية أو الروحية التي تتمثل في هذه الساحة أو للدخول على الوجدان اللبناني الذي احتضن المقاومة وعناوينها الاستراتيجية في التحرر ومقاومة الظلم ومحاكاته ببعض الأساليب التشويهية لإفراغه من مخزون القيم التي يحتضنها في هذا الجانب، وذلك خطير جداً، لأن معناه التوجه إلى الساحة العربية والإسلامية كلها لحثها على التنكر لكل حالات المقاومة والممانعة، وعلينا الانتباه إلى ذلك ومعالجة الأمور بحكمة وروية وعقلانية ودقة كبيرة، بالنظر إلى حساسية المرحلة وخطورة التحرك ارتجالياً فيها على المستويات كافة
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ