العدد 1371 - الأربعاء 07 يونيو 2006م الموافق 10 جمادى الأولى 1427هـ

بناء الدولة وصنع البحريني المنضبط ()

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يستخدم مصطلح «المجتمعات التقليدية» للدلالة على كل الأنظمة التي لا تستجيب للمقاييس العامة للمجتمعات الحديثة، وتتميز هذه الأخيرة بوجود سلطة الدولة المركزية. ولهذا تمثل الدولة، بشكلها الحديث، آخر مراحل التطور في التجمعات السياسية والاجتماعية لدى البشر، وتعميم هذا النموذج هو واحد من منجزات الحداثة. ولهذا يربط عالم الاجتماعي الألماني ماكس فيبر بين نشأة جهاز الدولة الحديث، وبين عقلنة كل مجالات الحياة، وظهور سلطة تفرض «مشروعيتها» بفضل الإيمان بصلاحية وضع شرعي يسمح لهذه السلطة بالاحتكار المشروع لـ «العنف المشروع» أي العنف المبرر شرعياً وقانونياً. وتمتاز هذه الدولة بالبيروقراطية العقلانية بما هي، بحسب فيبر، عماد التنظيم الحديث وجملة الوظائف الإدارية غير الشخصية والمتناهية في الدقة والتنظيم وتوزيع الأدوار والمسئوليات.

غير أن الدولة حين امتدت إلى كل شيء فإنها خلقت بذلك تعارضاتها الخاصة، والحق أن هذه التعارضات هي في صميم الحداثة ومنجزاتها. وهذا ما نبه إليه نقاد الحداثة من نيتشه إلى فرويد إلى هوركهايمر وأدورنو وجيل دولوز وميشيل فوكو وآخرين، وذلك حين تكشف أن للحداثة أكثر من طريق، وأن إنجازاتها تسير في اتجاهات كثيرة، بعضها إيجابي ومتناسق، وبعضها سلبي ومتعارض، أو أنها ذات إنجازات إيجابية إلا أنها ليست إيجابية على طول الخط. وبحسب فوكو فإن «عصر الأنوار الذي اكتشف الحريات هو الذي اخترع أيضاً الانضباطات» (المراقبة والمعاقبة، ص ). وإنجازات الطب الحديث التي رفعت الأجل المتوقع للبشر هي التي تسببت في الانفجار السكاني في العالم. وبتعبير ألان تورين، فإننا «كنا نعيش في الصمت، صرنا نعيش في الضجيج، كنا معزولين فصرنا ضائعين وسط الزحام، كنا نتسلم القليل من الرسائل والآن تنهمر علينا كوابل من نار» (نقد الحداثة، ص ). وكما يقول دوركهايم: «كلما تقدمت الحداثة ابتعدت السعادة وزاد الشعور بالكبت وعدم الإشباع» (ص )، و«بقدر ما تتقدم الرأسمالية بقدر ما تلغي الفكر العقلاني ومشاعر الرحمة والإنسانية» (ص ).


طبائع «شيزوفرينية»

لقد اعتبر دولوز أن الحداثة، والرأسمالية على وجه الخصوص والأمر ينسحب على الدولة كذلك، ذات طبائع «شيزوفرينية»، وهي ما سماها دانيال بل «التناقضات الثقافية للرأسمالية». أما بالنسبة إلى ألان تورين فإن شجب هذا الوجه في الحداثة يعبر عن «شكل خاص من الحنين إلى الوجود» (نقد الحداثة، ص ). والحق أن هذا الحنين همّ مشترك لمعظم نقاد الحداثة، فنيتشه يرفض الحداثة وتحضرها ويحن إلى عالم ما قبل تمدن «الإنسان المدجن»، إلى عالم «الحيوانات الشقر»، عالم ما قبل تشكل الأخلاق وظهور القانون، عالم يقع فيما وراء الخير والشر، والطيب والخبيث، عالم ما قبل «القطيعة العنيفة مع الماضي الحيواني» للإنسان« (جينالوجيا الأخلاق، ص ). أما بالنسبة إلى فرويد فإن الإنسان واقع تحت تجاذب حاد بين قوتين ومجالين متعارضين: الأول هو مجال القانون والذي يشمل القواعد والأعراف والضغوط الاجتماعية الخارجية، والثاني هو مجال اللذة والغرائز وهو عالم في باطن الإنسان ويخلق رغبات تبحث عن الإشباع بأية طريقة. فهذان عالمان متعارضان ويتجاذبان الإنسان بقوة، إذ القانون في مواجهة الغرائز، ومبدأ الواقع في مواجهة مبدأ اللذة، والأنا الأعلى في مواجهة الهو.

ويعتبر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أشهر المنظرين لهذا النوع من الحنين إلى الوجود الذي تم نسيانه بعد أن تراكمت بينه وبين الموجود حجب كثيفة. ومن بين هذه الحجب يأتي «قانون التأطير» بوصفه عتبة أو طبقة خارجية فرضت على الوجود الإنساني التزامات كانت له بمثابة الحجب التي تمنعه من العودة إلى «الانكشاف الأصلي» للوجود والحقيقة الأولى.

وعن هذا القانون يكتب هايدغر: «إن التهديد الذي يثقل كاهل الإنسان لا يأتي في الدرجة الأولى من آلات وأجهزة التقنية، التي يمكن فعلاً أن تكون قاتلة. إن التهديد الحقيقي كان قد أصاب الإنسان من قبل في كينونته». ويسمي هايدغر هذا التهديد الذي أصاب الإنسان في صميم كينونته بـ «قانون التأطير»، وهذا القانون يهدد الإنسان عندما ينكر عليه إمكان العودة إلى «انكشاف أصلي» ليخبر «نداء حقيقة أكثر أولية» وعمقاً (التقنية، والحقيقة، والوجود، ص )، وأخطر ما يفعله قانون التأطير هو أنه يعمل كقوة إخضاع تحجب «عنا قوة ولمعان الحقيقة».

يمثل هذا القانون حدثاً مفصلياً خطيراً شرع في الظهور في وقت مبكر من تاريخ الوجود، وحجب الانكشاف الأصلي والحقيقة الأكثر أولية وعمقاً كما يقول هايدغر. ومن أجل التقدم خطوة إلى الأمام نحو مقاربة أكثر التصاقاً بالسياسات الحيوية، فإن ميشيل فوكو يطور «قانون التأطير» الهيدغري من خلال حديثه عن «الانضباطات» ويعني بها مجموعة من الشبكات والأجهزة والأدوات والتقنيات والوسائل و«الطرق التي تتيح التحكم الدقيق بوظائف الجسد، والتي تؤمن الإخضاع الدائم لقواه وتفرض عليها علاقة طواعية ومنفعة» (المراقبة والمعاقبة، ص ). وعرف الإنسان الكثير من الأساليب الانضباطية منذ زمن بعيد في الأسرة والأديرة والجيوش والمشاغل وغيرها، إلا أن الأسلوب الانضباطي الأكثر عمومية وضخامة في تاريخ البشر إنما هو الدولة بما هي جهاز انضباطي ضخم متكامل ومترابط ومترامي الأطراف، ويقوم بوظائف الحكم والإدارة والتنظيم والمراقبة والمعاقبة، ويهدف إلى صنع «الإنسان المنضبط» اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً. هذه الدولة هي، بالضبط كما وصفها نيتشه، ذلك «الجهاز القاتل والعديم الشفقة»، والذي صير الناس عجيناً ليناً تشكله على طريقتها. هذا، بحسب نيتشه، هو «أصل الدولة على الأرض» (جينالوجيا الأخلاق، ص ).


تملك الأجساد

وبحسب فوكو فإن هذا النوع من أجهزة الانضباط الضخمة يختلف عن العبودية لأن علاقة الدولة بالمواطنين لا تقوم على «تملك الأجساد»؛ إذ «من أناقة الانضباط أنه استغنى عن هذه العلاقة المكلفة والعنيفة حين حصل على مفاعيل نفعية على الأقل بمثل منافع الاستعباد» (ص ). وعلى هذا فالدولة ليست فقط مرحلة من مراحل التطور السياسي والاجتماعي تتميز بوجود حكومة مركزية تحتكر استخدام القوة الشرعية في إدارة الشئون العامة في إقليم محدد، بل هي، إضافة إلى ذلك، جهاز يتألف من أساليب انضباطية تطبق على كامل المجالات والحقول ضمن حدود الإقليم المحدد، وتكون غاية هذا الجهاز هي إنتاج «إنسان منضبط» طيع ونافع في الوقت نفسه، وبتعبير فوكو فإن ما تفعله أجهزة الانضباط الضخمة هو أنها تجعل الإنسان «أكثر طاعة بمقدار ما هو مفيد وبالعكس» (ص )، أي أنه يكون مفيداً ونافعاً بمقدار ما هو مطيع وطيع وخاضع وسهل الانقياد.

وبظهور الدولة انطلقت أساليب الانضباط العمومية المنتشرة في كل مكان، وفرض على الإنسان أن يدخل ضمن علاقات محددة مع الآخرين ومع الدولة، وفرضت عليه كذلك التزامات وسلسلة طويلة ومحددة بدقة من الواجبات والمحظورات والحقوق أيضاً. وتنشط هذه الانضباطات في السيطرة والرقابة على الفعاليات الحيوية عند الإنسان فور ولادته، وتستمر معه حتى وفاته، وما بين الولادة والوفاة تشتغل على هذا الإنسان كل أجهزة الانضباط وأدوات تنميط الأفراد المنضبطين الطيعين والخاضعين والنافعين في الوقت نفسه.


اخضاع الفعاليات البشرية

ونجاح الدولة كجهاز انضباطي ضخم مرهون بقدرتها على تأطير إخضاع كل الفعاليات البشرية في مسار منتظم وثابت ومنمط. ويكون ذلك حين ينتظم الجميع في هذا المسار والتزاماته ومستلزماته. وتاريخ الدولة في البحرين هو تاريخ الإخضاع المتصاعد لجميع مجالات الحياة، لتكون كلها أمام مرأى الدولة وتحت تصرفها؛ وذلك من أجل تحقيق الغاية المثلى لكل دولة وهي «صنع المواطن المنضبط الخاضع الطيع النافع». وأول ما تتطلبه الدولة كجهاز انضباطي هو تسكين الأفراد في أماكنهم ووقف تحركاتهم الحيوية أو على الأقل تحديد هذه التحركات ووضعها تحت مراقبة العين التي لا تنام.

ثم تأتي الخطوة الثانية وهي «تقسيم الأفراد في المكان» وهو ما يسميه فوكو بـ «الإقفال والعزل، أي تخصيص مكان يختلف عن كل الأمكنة الأخرى ومنغلق على ذاته. مكان محمي للرتابة الانضباطية» (ص ). وقبل ظهور الدولة في البحرين كانت معظم أنشطة البشر تجرى في الأماكن المفتوحة وبطريقة غير ثابتة ومنتظمة، فلم يكن هناك مكان خاص محدد للولادة، بل كانت معظم الولادات تجرى في البيوت، وتقوم بها قابلات شعبيات لا يملكن من شهادات فنية غير خبرتهن الطويلة في التوليد، وهي خبرة غير معصومة عن الأخطاء التي قد تكون قاتلة في أحيان كثيرة. ولم تكن هناك سجلات صحية تحتفظ بتاريخ الميلاد والوفاة، بل كان الأهالي، فيما يبدو، يتخوفون وينفرون من أي تسجيل يقيد عملياتهم الحيوية. ولهذا السبب حرص مستشار حكومة البحرين ما بين ( و ) تشارلز بلغريف على تبديد مخاوف الناس من أول إحصاء سكاني أجري في العام ، فأكد، في «إعلان إحصاء نفوس سكان البحرين» أن «الحكومة ليس لديها أدنى فكرة في إجراء أي قيد من القيود بخصوص الكشف الطبي على الوفيات والمواليد». ويبدو أن السبب وراء هذا التأكيد هو انتشار «إشاعة مفادها أنه لن يسمح للنساء بولادة أي طفل إلا داخل مستشفى الحكومة» (مذكرات بلغريف، ص ).

كما كان انعدام سجلات المواليد والوفيات موضوعاً لشكوى القائمين على إحصاء العام ، وذلك حين أشاروا إلى أنه «لا يوجد في الوقت الحاضر تسجيل للمواليد والوفيات فمن المتعذر الحصول على أرقام صحيحة تدل على ازدياد في السكان بصورة مستمرة» (البحرين حضارة وتاريخ، ص ).


يولدون ويموتون بحرية

وبغياب هذا القانون الذي يلزم الناس بتسجيل مواليدهم والتبليغ عن وفياتهم كان الناس يولدون بحرية ويموتون بكل حرية ومن دون مراقبة أو معاقبة على تجاوز قوانين أو لوائح تنص على وجوب التبليغ عن كل ولادة وكل وفاة في سجلات الصحة. كما سمح غياب هذه السجلات بإطلاق حرية الناس في تغيير أعمارهم بالزيادة والنقصان بحسب ما تقتضي الحاجة من

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1371 - الأربعاء 07 يونيو 2006م الموافق 10 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً