اليوم يعود أطراف الحوار الوطني اللبناني إلى عقد جلساتهم لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية وملف العلاقات مع سورية وغيرها من نقاط عالقة. ويرجح أن تبقى النقاط عالقة من دون حل نظراً إلى تلك الضغوط الدولية التي تمارس على البلاد من خلال القرارين و. فالضغوط الخارجية تمنع التوافق بسبب تشكيلها مجموعة مواقع تعطل على مراكز القوى المحلية قراءة المشكلات اللبنانية في سياق إقليمي.
بعض أطراف آذار يجتهد في سياسة الفصل ما بين لبنان ومحيطه العربي - الإقليمي متجاوزاً بذلك علاقات الجوار الجغرافي وما تتركه من تأثيرات سلبية على الاستقرار. هذا الفريق يرى أن هناك فرصة للفصل بين المحلي والعربي والإقليمي وأن الظروف الدولية مؤاتية لتحقيق هذا الشرط.
إلا أن الوقائع الجارية تنفي حصول مثل هذا الاحتمال نظراً إلى ترابط النقاط العالقة بتلك الأجواء التي تحيط بالمنطقة. فالنقاط المطروحة على طاولة الحوار مدوَّلة و ليست لبنانية في جوهرها. فالموضوع الفلسطيني لا يمكن معالجته خارج دائرة الساحة العربية وتلك الالتزامات العامة التي أقرتها قمة بيروت. وموضوع الدفاع وحماية الأراضي اللبنانية من الاعتداءات الإسرائيلية من الصعب اختزاله إلى بند أو بندين الأول يتعلق بالسلاح الفلسطيني والثاني يتصل بسلاح المقاومة. كذلك العلاقات مع سورية لا يمكن اختصارها إلى وجهة نظر واحدة. فالعلاقات هي في النهاية تتطلب تسوية بين طرفين. وهذا الأمر لا تقرره قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي وإنما تفاهمات تصاغ مباشرة بين بيروت ودمشق.
كل النقاط إذاً تحتاج إلى وقت لمعالجتها وتتطلب أيضاً دبلوماسية تقرأ السياسة في سياق موازين القوى والمصالح وما تمليه الثوابت الجغرافية والروابط التاريخية على المسلكيات من رؤية عاقلة تنظر إلى الواقع ضمن صيغة تحترم الخصوصيات وتوازن المصالح.
لبنان لا يستطيع أن يستقل عن المنطقة، كذلك لا يستطيع أن يفصل بين فوائد الارتباط ومضار الاستقلال. فهذا البلد الصغير بحاجة إلى المنطقة وكذلك لا يمكن أن يرسم مستقبله في سياق العداء لسورية. فالمصالح تتطلب من القوى اللبنانية المتحاورة إعادة قراءة العلاقات انطلاقاً من رؤية واقعية تتكيف مع شروط الزمان والمكان وتقترب من الجغرافيا وتأخذ في الاعتبار تداخل الحدود ومؤثراتها على حركة السكان والتجارة والمواصلات. وهذا الأمر لا يمكن التوصل إلى رؤيته من دون قراءة موضوعية لموازين القوى وتوازن المصالح.
كذلك السياسة الدفاعية. فاستراتيجية الدفاع عن لبنان وحمايته من العدوان الإسرائيلي من الصعب عزلها عن دائرة المنطقة، وما تعكسه التوترات الإقليمية من سلبيات أمنية على استقرار البلد. فكل النقاط متداخلة وهي تحتاج إلى رؤية مشتركة تضع المصلحة في إطار خطة واضحة لا تغيّب التوازنات الإقليمية من المشهد السياسي الداخلي. فالداخل اللبناني الذي تتحكم فيه العصبيات الصغيرة على مستوى القرارات المحلية يختلف عن ذاك الداخل اللبناني الذي تعصف فيه المتغيرات الإقليمية والدولية. وحين تنظر القوى المحلية إلى التوازنات الكبرى على الصعيدين الدولي والإقليمي بمنظار عصبي ضيق تتحكم فيه الأهواء الطائفية والمذهبية والمناطقية تكون أخرجت القطار عن السكة وأضاعت بوصلة الاتجاهات. فالميزان الذي يرصد حرارة الأجواء المحلية بحسب أهواء العصبيات الضيّقة يختلف عن حرارة الميزان الذي يرصد تقلبات الأجواء الإقليمية والدولية.
القوى اللبنانية التي تلتقي اليوم على طاولة الحوار يصعب عليها التوصل إلى صيغة نهائية للنقاط المطروحة. فمثل هذه الصيغة ليس من السهل حسمها في بلد تكثر فيه الطوائف وأبوابه الجوية والبحرية والبرية مفتوحة على تقلبات تحمل الكثير من الاحتمالات والمتغيرات.
وبسبب هذه الأجواء الساخنة يستبعد أن تتوافق القوى المتحاورة على رأي موحد نظراً إلى تعدد القراءات واختلاف الرؤية. فهناك فريق ينظر إلى المنطقة (الجوار الجغرافي) من زاوية ضيقة مغلباً الأهواء العصبية المحلية على المشترك العربي العام، وهناك فريق ينظر إلى لبنان من زاوية إقليمية مغلباً المخاطر المشتركة وما تمليه من مسئوليات تأخذ في الاعتبار موازين القوى وتوازن المصالح.
لبنان الآن ينتظر نتائج الحوار الوطني. إلا أن التفكير الواقعي يتطلب المزيد من الاجتهاد في رؤية تلك النقاط العالقة في إطار أوسع من دائرة الطاولة التي تجتمع حولها القوى السياسية اللبنانية. فالمشكلات ليست محلية ومفاتيح الحل لا يملكها فريق دون آخر. والفرقاء كلهم، حتى ولو اتفقوا على تسويات مؤقتة، هم أيضاً بحاجة إلى تفاهمات مصلحية تأخذ في الاعتبار ثوابت الجغرافيا وروابط التاريخ والمتغيرات الإقليمية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1371 - الأربعاء 07 يونيو 2006م الموافق 10 جمادى الأولى 1427هـ