بلد دلمون مغمور بالنور، متميز بالإشعاع... الغراب لا يصيح في دلمون، والحجل لا توصوص، الأسود لا تقتل أحداً، والذئب لا يلتهم الحمل الوديع، لم يكن الكلب يتقن إخضاع الغزلان، ولم يكن الخنزير البري يأكل الحبوب، لم تكن طيور السماء تأتي لتنقر شعير الأرملة وهو يجف على السطح، و لم تكن الحمامة تحني رأسها.
هذا مقطع من أحد أعمدة الحجر المنقوش لملحمة جلجامش. وقد نتأمل بعض الشيء ونجد فيه ما يمكننا أخذه من حقيقة واردة عبر الأزمنة والعصور. والحقيقة هو أن كلما سعينا إلى الأمام، نجد أنفسنا نحاول الوصول إلى تلك المحطة التي تمثل كل ما هو مرغوب في الكونية البشرية. والرغبة في حال ملحمة جلجامش هي الخلود؛ الحياة الأبدية التي تمنحنا الوصول إلى اللا منتهى بدلاً من الهلاك والاضمحلال والتي تم تصويرها في شكل أرض دلمون التي توجد فيها نبتة الحياة. لكن بعيداً عن المفهوم الحرفي، لنسأل ما هو السعي للخلود في زمننا هذا؟
حسب إحدى النظريات النفسية، يقال إن المرء يسعى إلى الوصول إلى «العظمة«، أو القمة؛ عالياً وبعيداً عن الآخرين. هذه القمة قد تكون بلوغ النجاح والشهرة في عمل ما، أو اقتناء الممتلكات والتملق لأصحاب النفوذ التي هي بذاتها تؤدي إلى الشهرة و «النجاح» لكن الوصول إلى القمة ليس الخلود، لأن الخلود لا يمكن أن يكون مجرد أملاك أو شهرة سرعان ما تأتي تزول.
الخلود ليس عناوين الصحف ولا المباني الشاهقة ولا السيارات الفخمة. الخلود هو عندما نضع الآخرين على أكتافنا ونرفعهم للقمة. عندما نساعد من هم أقل حظاً منا ومن نرى فيهم الأمل في العمل وبناء البلد وإثبات قدرات أبنائها. والخلود هو أيضاً عندما نمهد الطريق الى المستقبل بالتركيز على المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، والسعي نحو نمط حياة مرتكز على الجانب الإنساني، الحضاري، الثقافي والديني بدلاً من مجرد المادي.
فبذلك نخلد أنفسنا عبر أعمالنا وتأثيرنا الإيجابي في حاضر يكثر فيه صياح الغراب والذئاب المفترسة. فلنأمن منزل الأرملة ولندعها تججف شعيرها بسلام. فليس كل مكان مغمور بالنور لأن هناك الظلام القاتم أيضاً في كل مكان وزمان.
في الاسطورة السومرية الخلود هو مكان يحظى به المغامرون. لكن في الواقع الخلود هو الأعمال والأفعال التي نخلفها. أعمال مخلدة لكونها إنسانية وراسخة المبدأ تجعل منا أكثر من مجرد عنوان صحيفة أو سيارة آخر موديل. فإذا أردت البحث عن دلمون وسر الخلود، ابدأ بقلبك.
رحلة جلجامش إلى دلمون بقلم عبدالجبار محمود السامرائي
العدد 1370 - الثلثاء 06 يونيو 2006م الموافق 09 جمادى الأولى 1427هـ