أكثر من أي يوم مضى، يظهر السوريون وكأنهم على مفترق طرق في رؤيتهم لـ «الوطنية السورية»، إذ إن هناك خلافاً واختلافاً بين رؤيتين لـ «الوطنية السورية»، ونهجين في التعامل معها، ويمكن ان نجد لهما تعبيراً واضحاً في الانقسام السوري بشأن الموقف من حالة الطوارئ المعلنة من خلال اعتصام جرى تنظيمه أمام قصر العدل بوسط دمشق في التاسع من مارس/آذار ، وهو نسخة مكررة عن حادث مماثل شهده المكان نفسه في مارس .
في ذلك اليوم المفصلي، دعت جماعات سياسية معارضة، تنضوي في إطار «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي» إلى اعتصام رمزي وسلمي وحضاري للمطالبة بإنهاء العمل بحالة الطوارئ المعمول بها منذ مجيء حزب البعث الى السلطة في مارس ، وحضر مئات الناشطين من محافظات سورية مختلفة إلى قصر العدل، ليجدوا مئات من «الطلبة» سبقوهم إلى المكان حاملين الاعلام السورية وصور الرئيس، فيما كانوا يرددون هتافات للرئيس ولسورية.
وعلى رغم أن المكان كان يتسع للطرفين، ويزيد إليهما اتساعه رجال الأمن وضباط الشرطة، ومئات من جنود حفظ النظام الموجودين في سياراتهم في جانب من المكان، فإن «الطلبة» وبتوجيهات من قادة ميدانيين بعضهم من «اتحاد الطلبة» وآخرين من رجال الأمن، انقسموا إلى مجموعات صغيرة، أخذت تقتحم صفوف المعتصمين، وتطلق في وجوههم هتافات تصفهم بـ «العمالة» و«الخيانة»، ثم ما لبثت أن طورت حملتها إلى الاعتداء على المعتصمين من رجال ونساء ضرباً بالأيدي، ثم بالعصي التي تحمل الاعلام السورية وصور الرئيس في محاولة مكشوفة لإظهار وطنية «طلابية» عنفية في خطابها وممارستها في مواجهة وطنية المعتصمين السلمية والحضارية.
لقد كشفت تلك المواجهة المحدودة، اختلاف نهجين في النظر الى الوطنية السورية، نهج ينضوي في إطار حركة سياسية معارضة، هي جزء من حراك اجتماعي وثقافي وسياسي، تطور في السنوات الست الأخيرة على قاعدة المطالبة بالإصلاح وبإجراء تغييرات جوهرية في علاقة السلطة بالمجتمع من الناحيتين الدستورية والقانونية، والقيام بخطوات إجرائية، هدفها تصفية آثار المرحلة السابقة وخصوصاً لجهة إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وعودة المنفيين، وكله في سياق معالجة ترديات الحال السوري من جهة ومواجهة تحديات المرحلة التي تمر بها سورية في المستويين الاقليمي والدولي.
أما النهج الثاني، فقد كان نهج النظام المستمر، كما جسده مدافعون عن النظام وسياساته، وهو نهج كثيراً ما جرى تعريفه بأنه نهج التطوير في سياق الاستمرار، والترجمة العملية لهذا التعريف، تعني إعادة إنتاج النظام القائم تحت شعارات لا تتعارض مع طبيعة النظام ومؤسساته من الناحية الجوهرية في عملية تتماثل وعملية تجديد نظام البعث في العام ، وهو الامر الذي يفسر، تكليف «طلاب» بالتصدي للمعتصمين من المعارضين تحت حراسة قوات الأمن وإشراف رجال المخابرات، بدل قيام الأمن وضباطه بإحباط المعتصمين على نحو ما درجت الحال، وإن كان ذلك لم يمنع اعتقال عدد من المعتصمين من جانب الأمن مباشرة.
إن الامتداد الطبيعي لنهجين وموقفين بشأن «الوطنية السورية»، يمكن أن نجد تعبيراتها خارج المساحة القائمة أمام قصر العدل في مدن وقرى سورية، كما يمكن أن نجدها أيضاً في أوساط السوريين في الخارج ممن تكثفت حركتهم وأحاسيسهم بشأن سورية ومستقبلها، وفي الحالين سنجد نهجاً يميل إلى التفاهم والتوافق وإيجاد المشتركات، ويسعى إلى تغيير هادئ - ومتوافق عليه إذا أمكن - بأقل الخسائر الممكنة، ونهج ينكر الآخر، ويرفض الحوار والتوافق، ويعتمد القوة والاملاء بالاكراه في الحفاظ على وجوده أو سعياً نحو تكريس هذا الوجود.
ومثلما ان النهج الاول موجود في الداخل، فإنه موجود في الخارج، وهي حال تتماثل مع حال النهج الثاني الذي يرفض رموزه في الداخل الحوار والتوافق، ويؤكدون ميلهم الى القوة والاكراه، ويجد له موازياً في دعاة استخدام القوة ضد النظام في دمشق، حتى لو جاء من جانب الخصوم الخارجيين، وكلاهما يؤدي الى دمار وخراب، والحال، أن ذلك لا يكرس نهجين فقط، بل «عقلين» مختلفين في فكرة «الوطنية السورية» من حيث فهمها وشكل التعامل معها!
ومثلما حدث في مارس الماضي، تكرر الانقسام بشأن الوطنية السورية مجدداً عن إعلان بيروت - دمشق الذي وقعه مثقفون سوريون ولبنانيون من أجل إطار جديد للعلاقات السورية - اللبنانية في المستويين الرسمي والشعبي، يتجاوز ترديات علاقات البلدين في واقعها الراهن، وكان جوهر الانقسام السوري في موقفين مختلفين، أولهما رأي في واقع ومستقبل العلاقات السورية - اللبنانية عبر عنه قطاع من السوريين، وهجمة أمنية وسياسية شنتها السلطات السورية ضد الموقعين على الاعلان من رموز الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي، أدت إلى اعتقال بعضهم وتقديمهم إلى المحاكمة وسط اتهامات لا تستبعد ارتباطهم بمخططات خارجية. وكما في مرات سابقة، فقد جددت تلك التطورات خلافاً واختلافاً سورياً ظاهراً في رؤية «الوطنية السورية» وفي نهج التعامل معها
العدد 1369 - الإثنين 05 يونيو 2006م الموافق 08 جمادى الأولى 1427هـ