أربعون عاماً مضت على تلك اللحظات الاستثنائية في التاريخ العربي المعاصر. مضت الأعوام ولن ننسى تلك اللحظات التي لاتزال دقاتها تقرع في عقل جيل كامل أهينت كرامته وأحبطت أحلامه ووقف مدهوشاً أمام واقع مؤلم.
آنذاك وقبل أربعة عقود من الزمن كانت المنطقة تعيش حالات تحوّل تشي باحتمال حصول اختراق تاريخي ينقذ الجغرافيا العربية من حياة التخلف وظروف التمزق. كان جيل تلك الفترة الشاب ينتظر تلك اللحظات ويراهن على قيادة سياسية وعدت المنطقة بتحقيق ذاك الاختراق ونقل الشعوب إلى مكان آخر.
وفي لحظات قليلة تفصل بين الرابع من يونيو/ حزيران والخامس منه تبخرت تلك الأحلام وضاعت تجربة واعدة في أقل من ستة أيام. قبل الخامس كان الزمن العربي يتغيّر بسبب انبثاق قيادة مصرية طرحت مشروعاً يقوم على مجموعة أفكار جميلة. فمصر آنذاك تحوّلت منذ معركة السويس وتأميم القناة وطرد بقايا الاحتلال البريطاني إلى قطب جاذب في المنطقة. وتحوّلت الجاذبية إلى نوع من الأمل في احتمال تطور الوحدة العربية من رؤية ايديولوجية إلى واقع سياسي يقوم على مجموعة مبادئ تؤمن بالحرية والعدالة والمساواة والاستقلال... وكل هذه المبادئ كان من الصعب توقع حصولها إذا لم تنجح القيادة في تحرير فلسطين. من دون فلسطين لا يمكن أن تتحقق الوحدة أو الحرية أو العدل والاستقلال. فلسطين كانت العقبة. ومن ينجح في ذاك الرباط ويستعيد ذاك الثغر تفتح أمامه أبواب المستقبل.
آنذاك كانت مصر تقودها مجموعة شابة خرجت مهزومة في فلسطين في عام النكبة (). ونجحت تلك القيادة في تحقيق خطوات لا بأس بها على مختلف الأصعدة من تأمينات صحية واجتماعية وزراعية وصناعية وتربوية. ووصلت مصر بمقاييس تلك الفترة إلى درجة متقدمة من النمو وحققت خطوات جيدة على مستوى تحرير الاقتصاد وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار الأمني والاستقلال السياسي والاعتماد الذاتي على الإنتاج الوطني. وبحسب ما ذكره الوزير الماليزي السابق في ندوة عقدها في البحرين بدعوة من صحيفة «الوسط» كانت مصر في الستينات على مرتبة دولية واحدة مع تايوان.
الأحلام إذاً لم تكن مختلقة، والآمال الوردية على رغم طفوليتها كانت تعتمد على بعض الإنجازات المحسوسة (بناء السد العالي، وتأمين احتياجات مصر من الطاقة الكهربائية). هناك فقط عقبة واحدة ومن ينجزها يحقق ما هو المستحيل.
فلسطين إذاً كانت المدخل التاريخي/ الجغرافي لهذا الحلم الجميل. وفلسطين أيضاً لم تكن بعيدة عن مرمى الهدف. وبوجود تلك الصواريخ (القاهر، والظافر) التي كان أحمد سعيد في «صوت العرب» يهدد بها يومياً لم تكن في الحسبان أية مشكلة. إنها مسألة وقت. واللحظة بحاجة إلى قرار. والقرار بحاجة إلى قيادة نزيهة وواعية. وكل هذه المتطلبات البشرية متوافرة مع معداتها. وهي كلها تنتظر تلك اللحظات.
وجاءت اللحظات. آنذاك هددت «إسرائيل» سورية، وأيضاً حذرت الدول العربية من التفكير بتحويل روافد نهر الأردن. فالدولة العبرية اعتبرت أن مياه النهر من منابعها في الجولان وجنوب لبنان إلى مصبها في البحر الميّت ملكها ولا يحق للدول العربية الاستفادة منها.
إنها معركة مياه، ومعركة كرامة. ومن يتردد عن المواجهة يخسر هيبته ويفشل في إقناع الناس بشرعية مشروعه. كان لابد من الاستجابة ورد التحدي. إنها إرادة ومسألة وقت. يوم واحد ونعبر الزمن.
هكذا بدأت تباشير الحرب (تحرير فلسطين) تلوح في الأفق بعد طول انتظار. ورد عبدالناصر على التحدي فطلب من القوات الدولية الانسحاب من سيناء، وأعلن إغلاق مضيق تيران على البحر الأحمر. واستنفرت دول العالم غاضبة ورد عبدالناصر بالقول «من لم يعجبه فليشرب مياه البحر». وأضاف إليه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك أحمد الشقيري مهمة جديدة «سنرمي إسرائيل في البحر». وقال أحمد سعيد في «صوت العرب» إنها «مسألة ساعات وتنتهي المشكلة».
الحلم إذاً اقترب وموعد العرب مع التاريخ الجديد ينتظر ذاك القرار التاريخي. كانت الآمال ليست بعيدة عن الرابع من يونيو. فالكل كان على قناعة بأن المسألة تختصر بالإرادة. والكل كان على ثقة كاملة بحسن نية عبدالناصر واكتمال عناصر العدة عنده كذلك شروط الانتصار.
نام الجيل (جيلنا) على الأمل في ذاك اليوم. ونهض صباح اليوم التالي في الخامس من يونيو على وقع طبول الحرب. فالحرب وقعت إذاً وبعد طول انتظار.
«صوت العرب» أعلنت عن إسقاط طائرة، وذكرت أيضاً أن القوات أصبحت على كيلومتراً من تل أبيب. وفلسطين باتت على خطوات من التحرير.
وجاء اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس... وأعلن وقف النار على منظر مهول. الجولان سقطت، القدس سقطت، الضفة سقطت، غزة سقطت، سيناء سقطت... و«إسرائيل» أصبحت على الضفة الشرقية من قناة السويس ومدافعها تشرف على دمشق.
انهار الحلم. وتحوّلت تلك اللحظات إلى سنوات عاثرة. عبدالناصر كان يملك من الشجاعة والرجولة ليعلن أمام الجماهير أنه يتحمل المسئولية. وأنه يقدم استقالته ثمناً لتلك الخيبة التي سبّبها وأصابت الجيل العربي بالمرارة من المحيط إلى الخليج.
الجماهير رفضت الاستقالة لأنها أدركت أن من هو بعد عبدالناصر أسوأ منه، ولا بديل عنه في هذه اللحظات الصعبة. فهو على الأقل تعلّم الدرس ولم يتردد في تحمُّل مسئوليته، وأنه على الأقل اعتذر وأبدى استعداده لمواصلة المعركة. فهو قال «خسرنا معركة ولم نخسر الحرب»، وقال أيضاً «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة». وفي الخرطوم تداعت دول الجامعة العربية وأكدت تمسكها بالقضية وشددت على «اللاءات الثلاث». وفي منظمة التحرير خرج الشقيري وجاء ياسر عرفات إلى مكانه في القيادة.
انهار الحُلم ولم تتلاشَ بقاياه وأطلاله. جيل كامل مُسحت آماله وأمنياته في لحظات قليلة ولكنها كانت كافية لإعادة قراءة الكثير من الأفكار الجاهزة والنهائية والمعلّبة. فالرهان على «القاهر» و«الظافر» استقر على ما دونه. والرهان على وعود «صوت العرب» تقلّص إلى الحدود الدنيا. وبدلاً من أن نرمي «إسرائيل» في البحر رمت تلك الدويلة مستقبلنا في البر. ومع ذلك تسمّر الحلم في مكانه وأخذ الجيل يهرم ويشيخ ويبتعد عن المراد على رغم ما تحقق في حرب أكتوبر ، وحرب تحرير جنوب لبنان في العام ، والانسحاب من غزة في العام .
أربعون عاماً مضت على تلك اللحظات الاستثنائية... وحتى الآن لا نصدق حكاية ما حصل، وحتى الآن لم تضمحل تلك المرارة التي دمرت آمال جيل عربي بالكامل. وحتى اليوم لايزال دوي تلك الدقائق يقرع في عقل ذاك الجيل الذي لم تكسر تلك الهزيمة عنقه، وحتى الآن يواصل الممانعة على بصيص نور يلمع في صورة الأفق.
لحظات كثيرة عبرت خلال فترة العقود الأربعة الطويلة... إلا أن الأمل بلحظة العبور التاريخي من زمن إلى آخر لاتزال حاضرة تضجّ بأحلام اليقظة والنوم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1368 - الأحد 04 يونيو 2006م الموافق 07 جمادى الأولى 1427هـ