إذا كان من اليقين الثابت أن التجديد والإضافة لا يمكن لهما إلا أن يكونا نتاجا لعملية تلاقح الأفكار عبر تحاورها وتدامجها بشكل حر وديمقراطي في بيئة ترفل بمعطيات التنوع الثقافي وتؤمن بالاختلاف وتأمن له باعتباره أفقاً مفتوحاً على التعدد، فإنه من البداهة والمنطق التشكيك في قدرة المماثل والسائد على القيام بمثل هذا الفعل. ولن يسيء للديمقراطية ما قد يترتب على تلك الحوارات من خروج عن المنطق المألوف والكلام المجتر الذي يحمل تهديدات مضمنة بالويل والثبور وعظائم الأمور، تحدث إيلاماً نفسياً يعوق الإبداع، ولا يلغيه، ويعطل الرغبة في التجريب والمغامرة، ولا ينهيهما، بوصفهما عمليات طرق في المجهول برغبة الاستكشاف تعرض من آمن بالديمقراطية للشبهة التآمرية على القيم والثوابت وبالتالي على الوطن، بل إنها، أي الحوارات، تعطي تدريباً على تقبل الآخر لها وإن بدت مغايرة وغير مألوفة.
وفي اعتقادي، أن ثمة علاقة من اللزومية الشديدة بين التنوع بأبعاده الإنسانية، العرقية والجنسية والفكرية، كوضع طبيعي للوجود المادي بتلامسه مع حقائق الواقع وحرارة أنفاسه، والاختلاف، من حيث هو نزعة إنسانية تنشد الكمال وبلوغ الحقيقة من مداخل متعددة، إذ يستحيل قبول التنوع من دون التسليم بالاختلاف والإقرار بالتعددية، ذلك أن الاختلاف هو نتيجة طبيعية للتنوع، وقبوله والرضا به هو أحد أوجه نجاح الديمقراطية. ولضبط العلاقة بين التنوع والاختلاف فإن رابطة أخرى ينبغي استلالها من جدلية تلك العلاقة، لإيجاد صيغة إنسانية تولف بين المتناقضات، وهي التسامح، تلك المفردة القادرة على حمل المجتمع لتجاوز صعوبات الحوار ومخاضات الانتقال السلمي لفضاء الديمقراطية. إذ إن التنوع والاختلاف لا يستقيمان في المشهد الإنساني إلا مع تكرس التسامح قيمة إنسانية أساسية، يرتجع أمر تكرسها وضرورة سيادتها إلى التربية والتعليم التي يقع عليها عبء إعادة قراءة المناهج من حيث الأهداف والمحتوى وأساليب التدريس والتقويم، وفق ما يتطلبه المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، وباقي مؤسسات الحكومة الأخرى، إعلامية وشبابية، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني عبر توظيف مستخلص عموم الثقافة الشعبية على ما رحبت به من موروث شفاهي ومحكي، نجد فيه خزيناً متدفقاً لا ينضب من المعارف والخبرات التي تورد التسامح قيمة متناقلة جيلا بعد جيل، أسهمت في وضع عتبات الأمان ليجتاز الآباء والأجداد مراحل ما كان لها أن تتم من فرط قسوتها.
إن التنوع سمة دالة على الثراء الفكري ومجال ثري لخلق ثقافة متميزة، والتاريخ يعطي أمثلته الساطعة وأدلته الدامغة في هذا الإطار. وليست الحضارة الإسلامية إلا أقرب مثال والأكثر إرضاء وقبولاً إلى الوعي العربي الإسلامي، وان كانت أبعدها فيما يتعلق بالامتثال لمعطياتها الايجابية والتشبث بعناصر القوة فيها، وما يثير التوجس ويبعث على القلق هو تمسك البعض بتلك المعطيات من الحضارة الإسلامية المختلف عليها ومحاولة بعثها من جديد حتى وإن كانت لا تستقيم مع منطق التطور، ولا حتى هي وجه من وجوه السماحة الإسلامية التي احتوت أمما تفاوتت في سلم رقيها الحضاري. على أن التنوع الثقافي والزخم الحضاري الذي تحركت فيه، معطية آخذة، أعطاها بين أمم الكون أفضلية في العلوم والثقافة بمختلف تجلياتها. إذ ما من أمة حبست ذاتها في إطار محيطها الثقافي والايكولوجي تحت شعارات عنصرية متعالية مثل المحافظة على العرق والنوع، أو بدواعي الخوف على الثوابت والقيم، تحت حس متوهم بأنها في مرمى مؤامرات الغير ومستهدفة بالكراهية من بين أمم الأرض، إلا وكانت الخيبة عنوانا لمنجزها، وبالتالي الضمور والتلاشي في بحر أوهامها. ولعل القارئ الكريم يستنتج مما سبق أن ثمة من يتقصدنا بالإساءة إلى ثقافتنا وانفتاحها وتنوعها، باعتبار ذلك التنوع والانفتاح نقوصاً عن الخط العام الذي يرسمه البعض باللون الواحد وعلى الكل الالتزام به والانقياد لباهت نوره ومجهولات نهاياته.
فإذا ما اتفقنا على أن الاختلاف سليل التنوع ينبغي قبوله، فإننا، بالتأكيد، سنتفق على أن التنوع هو حاصل موضوعي للتعدد الاثني والعرقي وبالتالي الثقافي، تلزمنا ضرورة العيش المشترك على أن نقبل بعضنا الآخر. وفي هذا الإطار فان الاختلاف، بالضرورة ناجم عن مواقف ومرتكزات فكرية وايدلوجية وفلسفية متباينة دفعت بها الحياة من واقع متغيراتها، وبالتالي فهو إفراز دال على حيوية وديناميكية المجتمع الذي في مسار تطوره قد رفض ما يعرف بالواحدة الثقافية، سمة الأنظمة الشمولية والثيوقراطية وأكسجين استمرار وجودها، الذي عادة ما ترتهن له وتختبئ في دامس ظلامية نفقه القيم المجتمعية المراد تعزيزها وسيادتها. والمتأمل للواقع الثقافي في المجتمع البحريني يرى عجبا، إذ الفضاء مفتوح لانهمار المعرفة من كل الثقافات وبشتى اللغات تحمل أفكاراً متنوعة، كانت البحرين على الدوام منفتحة عليها ولا تمثل جديداً إلا لكون المعرفة بذاتها متجددة، ولكنها لا تختزن في ذاتها قدرة نفي القديم، كالذي يجري مع العادات والتقاليد واستجابتها مع قانون نفي النفي، ولكنها تبني على القديم جديدا، ذلك أنها على تماس مع حدود الحضارة وسقف الثقافة الذي وصل إليها شعب ما.
وبما أن المعرفة نسبية، فإن انصراف الناس في تناولها يكون نسبياً، ولهذا يشعر المرء بأن هناك حربا شعواء من وراء ستار، ولكنها في الخفاء طاحنة تنبئ عن رغبة في العودة بالبحرين إلى الوراء بعد هذا الذي تحقق على يد عظيم البحرين وفخرها الملك حمد بن عيسى، الذي دعا جميع القوى الوطنية إلى حوار علني يتسامى على الخلافات ليستجلب معه الفائدة للوطن بمكوناته التاريخية، وفجر بمشروعه الإصلاحي طاقات الشعب الكامنة، وكشف عن قدرات في التمييز بين الحقيقي والمزيف وبين الوطني والانتهازي، حان الوقت لتحديد الموقف منها عبر صناديق الانتخابات التي من واجب كل مواطن أن يحدد النائب الذي يعبر عن حس وطني وعلى عداء واضح وصريح بالطائفية لأنها هي الداء الذي يقود إلى الكارثة، كما أنها هي حجر عثرة أمام الانفتاح على الآخر، ومعوق لسيادة التسامح في التربة الاجتماعية لما تنطوي عليه من عصبية وكراهية
العدد 1366 - الجمعة 02 يونيو 2006م الموافق 05 جمادى الأولى 1427هـ