قبل أسبوع تماماً، وفي مثل هذا الوقت من مساء الخميس، كتبت عن وفاة آخر أميركية شهدت بعينيها كارثة «التايتنك» وهي في سن الخامسة آنذاك، وتم إنقاذها في قارب نجاة، لم يكن يدور بخلدي أني سأشهد بعد ساعة، «تايتنك» صغرى، على ساحل «النبيه صالح»، ويدفعني القدر لألعب فيها دور فريق الإنقاذ!
فـ «النبيه صالح»، هذه الجزيرة الجميلة الآسرة، تستقطب أعداداً من الناس، وخصوصا يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع. وكنت اصطحب الأطفال بين فترة وأخرى إلى بقعة «حرة» في الطرف الغربي من الساحل لا تتجاوز مساحتها مئتي متر، هي ما تبقى من ساحلها الجميل لعامة الشعب، بينما بقية سواحل الجزيرة أصبحت مستوطنات خاصة.
على هذه البقعة الصغيرة، عادة ما يستعرض أطفال «النبيه صالح» مهاراتهم في السباحة أمام الزوار. وهناك يوجد «طراد» أوأكثر، يقوم أصحابها بأخذ العوائل في جولات سريعة في البحر، لقاء مبلغ من المال. ما حصل الجمعة الماضي، وبينما كنا بانتظار «الطراد»، توقفت سيارة صغيرة، ونزل منها شاب يحمل طفلة صغيرة، ونزل معه أكثر من عشرة أطفال، أكبرهم لا يتجاوز الثامنة، وانتشروا في تلك البقعة الضيقة. من بين هؤلاء، تقدم طفل في الثالثة نحو الماء، ومد رجله ربما ليجرب عمقه أو حرارته، وسرعان ما وجد نفسه داخل الماء. في البداية ظننته يسبح كغيره، لكن تبين انه لا يجيد السباحة، فهو ينزل إلى القاع ثم يقفز إلى الأعلى ليستنشق بعض الهواء، ثم يعود إلى الغوص مرة أخرى. وفي آخر لقطة لمحت رأسه وهو يحاول استنشاق الهواء، ثم غاص إلى الأسفل ولم يظهر منه شيء غير رجله. فتقدمت بسرعة لأسحبه من رجله، لكن سرعان ما سحبه التيار، فما كان مني إلا أن ألقيت بنفسي وراءه وأخرجته من القاع.
كان الصبي مرعوباً، فأجهش بالبكاء. الموقف كان محرجاً جداً، ففي الوقت الذي كنت تمني النفس بأخذ جولة في الطراد مع الأطفال وأنت في كامل هندامك كبقية أبناء آدم، تجد نفسك تقف بملابسك المبللة على الشاطئ، بجوار طفل يبكي من الخوف. كل جدول «الرحلة» تغير، وكان عليك أن تعود من حيث أتيت.
انتظرنا الطراد، وأخذنا جولتنا المعتادة في «تايتنك» النبيه صالح، بصحبة عائلتين أخريين لا نعرفهما، ولما عدنا إلى الساحل كانت الشمس قد آذنت بالمغيب.
لم يكن من اللائق طبعاً أن تدخل المسجد العام بملابس مبللة عليها آثار الطين والطحالب، فكان الحل العودة إلى المنزل مبكراً. وفي الأثناء انتبهت إلى رنين صادر من جيب البنطلون، ففي لحظة الهبوط إلى «سطح الماء»، نسيت شيئاً اسمه «موبايل». الغريب أن «النقال» صاح ثلاث مرات متقطعة، ثم سكت نهائياً، لعلها كانت آخر صرخات الاحتضار. لا أدري هل كانت مكالمات عجزت عن الرد عليها، أم انها توصيلة دائرة كهربية بسبب الماء، وخصوصا انه ماء البحر. حتى مصلح الهواتف عندما عاينه قال: «لا فائدة... لقد دمر الشاشة تماماً»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1365 - الخميس 01 يونيو 2006م الموافق 04 جمادى الأولى 1427هـ