قد لا يكون من الواقعي أن نطلب الآن من المسلمين إلغاء خصوصياتهم المذهبية في ظل هذا الواقع الطائفي المتجذّر في أعماق حركة الواقع السياسي، لأن ذلك يمثِّل طرحاً مثالياً على مستوى المرحلة على الأقل لما تفرضه من وجود زعامات ومواقع قوة، ومصالح وعلاقات، وتحالفات داخلية وخارجية ما لا يمكن إلغاؤه دفعةً واحدة... ولكننا نؤكّد أهمية إيجاد حال وحدوية من خلال القضايا المصيرية التي يعيشها المسلمون على مستوى ما يمثله الوجود الإسلامي في مقابل الوجود الآخر، سواء فيما يتحرك على مستوى الداخل أو الخارج من قضايا المسلمين في المنطقة والعالم، وذلك بمحاولة ربط هذه القضايا بالمبادئ والقيم الإسلامية والسياسية والاجتماعية في الحياة، لتتحول هذه الحال الوحدوية إلى حال إسلامية عميقة في وجدان كل مسلم، ليكون ذلك أساساً للبحث في الموضوعات الواقعية المختلف عليها بعيداً عن الحواجز النفسية، وقد قال الله تعالى: «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم» (الحجرات: )، وقال الرسول الأكرم (ص): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر».
إن وحدة الموقف السياسي في بعض المواقع عندما تمتزج بالحال الإيمانية الوجدانية الملتزمة بخطى الإسلام في أجواء التقوى، من شأنها أن تسهّل الكثير من الحلول للمشكلات العالقة في الساحة... فيمكننا كمسلمين أن نظل ننظر إلى القضية الفلسطينية كقضية نجتمع عليها من خلال القيم الإسلامية التي نرتبط بها، لا بل نستطيع أن نجتمع عليها مع الآخرين بعنوان الرفض الديني المشترك للظلم والطغيان، كما أن قضية مواجهة الاستكبار الأميركي والصهيوني ومواجهة خططهما السياسية والعسكرية والاقتصادية ينبغي أن تمثل حافزاً مهماً للإصرار على خيار المقاومة الحصينة التي من شأنها أن تشد أواصر الحركات الإسلامية بعضها إلى بعض، بعيداً عن العنوان المذهبي، وخصوصاً في هذه المرحلة التي نلاحظ فيها وجود هجمة عالمية منسقة ضد الحركات الإسلامية المقاومة والمجاهدة، كما هو الحال بالنسبة إلى المواقف المتصاعدة ضد حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة، وضد حركة المقاومة الإسلامية في لبنان لانتزاع اعترافهما بـ «إسرائيل» من جهة، ولنزع سلاحهما من جهة ثانية، الأمر الذي يفرض تنسيق الجهود الإسلامية في مواجهة هذه الهجمة، بصرف النظر عن عناوين الاختلاف الطارئة التي قد يثيرها البعض هنا وهناك.
إن حركة الوحدة بين المسلمين هي أقرب إلى الواقعية من الحركات الأخرى، لأن ما يجتمع عليه المسلمون وما يجمعهم هو الكثير، وما يفرقهم هو القليل، ولأن الاختلاف قد ينطلق على مستوى المذهب الواحد، كما قد ينطلق على مستوى الاختلافات بين هذا المذهب أو ذاك، في حين يمكن أن تكون حركة الاجتهادات أمراً صحياً إذا عرفنا كيف ندير المسألة في نطاق القواعد الإسلامية التي أكدت الرجوع إلى الله ورسوله عند حصول الاختلاف. إن علينا أن نثير عنوان العزة والكرامة في ما هي قضايا المسلمين الواحدة التي تعني أن انتصارهم في موقع يمثّل انتصاراً لكل مواقع العزة والحرية في المواقع الأخرى، ولذلك فإن المقاومة في لبنان في تجربتها الرائدة تمثِّل نموذجاً يحتذى في مواجهة أي حال من حالات الاحتلال أو المصادرة للأمة ومقدراتها. ويمكن أن ننطلق من خلال هذه التجربة لتعميمها في المواقع التي تعاني فيها الأمة من حالات المصادرة والاحتلال، وبذلك يمكن للقوى والحركات الإسلامية أن تكتشف وحدتها في الصعيد الميداني، وأن تبحث عن آلية عملية لتجاوز الخلافات السياسية، وحتى البحث في القضايا الفكرية التي تشكِّل موضعاً من مواضع الخلاف، وإن كان الأمر ليس بهذه السهولة ولكن المسئولية تقع على عاتق الوحدويين المخلصين الذين يعيشون القضية في آفاقها السياسية المصيرية وفي التطلعات الإسلامية الرسالية، ولذلك يعملون على التصدي لحالات الاستنزاف الداخلية على مستوى الخطاب أو الحركة، وحتى على مستوى توحيد الجهود الميدانية لمواجهة المحتل، وخصوصاً في فلسطين المحتلة وجوارها أو في العراق كذلك.
وأضاف «إن علينا أن نتذكّر دائماً أنه لا معنى للتفكير في وحدة إسلامية على مستوى العاطفة والفكر والشريعة والسياسة من دون الإسلام، لأن الصفة التي نحملها في كلمة الإسلام ليست مجرد واجهة تشير إلى المجموعة البشرية العددية التي نمثّلها، بل هي كيان متكامل في الروح والعمل، يمثل قاعدة للفكر والعاطفة والحياة».
إن مسئوليتنا، كعلماء وكطليعة واعية وكمجاهدين، كبيرة في خطى حماية الوحدة الإسلامية، في ظل حالات الفتنة التي يحركها المستكبرون ويحركها الاحتلال في بلادنا، كما هو الحال في العراق. ولذلك لابد من تغليب المفردات الإسلامية على المفردات المذهبية في خطابنا، ولابد من استحضار روح الإسلام العالمية على العناوين السياسية المحلية. فعلينا ألا نحبس الإسلام في العلب الطائفية المظلمة، بل أن نتنفّسه في الهواء الطلق وفي دائرة الضوء، لأننا بذلك نحرّر أنفسنا وواقعنا وحاضرنا ومستقبلنا من كل أغلال الآخرين. ولنكن الفكر الذي يوحي ويحاور في ساحات الإنسان، لا الطبل الأجوف الذي يرن ويدوي في الفضاء، من دون معنى ولا حياة. وبذلك نكون الدعاة الحقيقيين لا الاستهلاكيين إلى كل قيم الإسلام ومبادئه، مؤكّدين وحدة القضايا في مسيرة الأمة التي برز فيها الاستكبار كله ليسقط كل مواقعها الممانعة والصلبة.
ونحن في لبنان علينا الانتباه إلى أن مسألة الاستقرار الداخلي هي واحدة من الممنوعات التي يريد أكثر من محور دولي أن تظل محل ابتزاز على المستويين الاقتصادي والسياسي، كما أن «إسرائيل» تعمل لتحريك الوضع الأمني في الجنوب بما يمثل ضغطاً على الداخل اللبناني وللدخول على خط بعض العناوين المثارة داخلياً ولتوجيه أكثر من رسالة في غير اتجاه داخلي وخارجي، ولاستغلال أي وضع بغية منع الوصول إلى أي اتّفاق داخلي على حماية لبنان من «إسرائيل» في إطار استراتيجية دفاعية محكمة سياسياً وعسكرياً وأمنياً.
لذلك، فإننا نحذّر من إعطاء «إسرائيل» أية فرصة في أي موقف ارتجالي أو في أية حركة بهلوانية تهدف إلى التأثير السلبي على الوحدة اللبنانية الداخلية في الوقت الذي تخضع أميركا أكثر لـ «إسرائيل»، وتسير عجلة الأوضاع نحو مزيد من التعقيد على مستوى المنطقة كلها
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1365 - الخميس 01 يونيو 2006م الموافق 04 جمادى الأولى 1427هـ