البعض ممن يقرأ السطور التالية قد يعتبرها خزعبلات عفا عليها الزمن، والبعض من الناشئة قد يصدم إذا كان يطلع للمرة الأولى على الحقائق الواردة في ثنايا المقال، نتيجة إهمال الصحافة العربية ما يتعلق بالقضية الفلسطينية منذ أمد بعيد، إذ تمر ذكرى النكبة وصحافتنا المحلية بالذات في غيبوبة عنها.
بداية، دفعني لكتابة هذه الأسطر خبر إغلاق مكتب مقاطعة «إسرائيل»، الذي أوردته «الوسط» بتاريخ مايو/ أيار الماضي، قريبا من ذكرى مرور عاما على مؤامرة قيام «إسرائيل» على أجزاء من أرض فلسطين في مايو . والمعروف أن رفع المقاطعة جاء كشرط من شروط تنفيذ اتفاق التجارة الحرة بين البحرين والولايات المتحدة.
لا أحد يشك بأن القرار مرفوض شعبياً، ولا يعكس البتة إرادة الناس، فالصراع مع «إسرائيل» صراع حضاري ومصيري في نظر الأمة كلها. وبغض النظر عن تضخيم الدور اليهودي الذي يصور الصهاينة كأنهم علماء الغيب في خططهم بعيدة المدى، فإن تكوين «إسرائيل» هو اجتماع إرادة ثلاثة أطراف: فهي رغبة صهيونية، ومصالح استعمارية، ومبررات دينية لاقت صدى في أوساط بعض من أطلق عليهم «رجال عصر التنوير»، فراح بعض هؤلاء العلماء يبحثون عن مبررات علمية وحسابات رياضية لقيام «إسرائيل».
من هؤلاء العلماء الذين حاولوا تقديم مبررات على أسس علمية لقيام «إسرائيل»، العالم الفيزيائي والرياضي وعالم الفلك الكبير اسحق نيوتن الذي توفي العام ، وشارك في دعوة قيام دولة «إسرائيل» واضع النظرية السياسية الليبرالية جون لوك (توفي )، وغيرهما.
لقد تغلغلت فكرة إعادة اليهود إلى فلسطين في الحركة البروتستانتية الجديدة فأعطتها بعداً عقائدياً دينياً، وقام فلاسفة التنوير أمثال لوك ونيوتن وغيرهما بالحض على عودة اليهود إلى فلسطين. وتم الزج بالنظريات العلمية في عمليات التسويق والترويج لعودة اليهود، فذهب نيوتن لمدى بعيد عندما حاول إيجاد «تفسيرات علمية خاصة لعودة اليهود إلى فلسطين»، بل ذهب أبعد من ذلك حين حاول أن يضع جدولا زمنيا للحوادث التي تفضي إلى العودة» كما تنقل ريجينا الشريف. و«أخضع الطبيب الفيلسوف المعروف دافيد هارتلي عودة اليهود إلى دراسة منظمة في كتابه العلمي العام (ملاحظات حول الإنسان وواجباته وتوقعاته) العام ».
جوزيف برستلي، الكيميائي مكتشف الأوكسجين العام كان قسيسا بروتستانتياً، وقد تصور أرض فلسطين بلا شعب، أهملها المحتلون الأتراك وهي في شوق عارم لاستقبال اليهود العائدين. أما الفيلسوف البروتستانتي صاحب كتاب «العقد الاجتماعي» جان جاك روسو (توفي العام ( فقد قال: «لن نعرف الدوافع الداخلية لليهود أبداً حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجماعاتهم». ووصف الفيلسوف إيمانويل كانت في القرن الثامن عشر اليهود بأنهم «الفلسطينيون الذين يعيشون بيننا». وأوجد بعض الفلاسفة الأوروبيين ذرائع لاحتلال فلسطين، إذ يرى الفيلسوف الألماني فخته) توفي العام ) بأن لا مكان لليهود في أوروبا، وحل مشكلاتهم لا يتم إلا «باحتلال أرضهم المقدسة ثانية وإعادتهم جميعاً إليها».
أكثر هؤلاء عاشوا في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي، بينما تم إعلان قيام «إسرائيل» في العام على أجزاء من أرض فلسطين، وهكذا يمكن تخيل كم يضع الغرب ومفكروه أهمية لهذه الدويلة وبقائها، ومحاولة الترويج لذلك حتى لو أدى ذلك إلى ليّ أذرع العلم من قبل كبار العلماء مثل نيوتن والطبيب الفيلسوف هارتلي. والنظر لهذه الفترة بين التاريخين (القرن السابع عشر والقرن العشرين) ينبغي أن يكون دافعا للأمة في الاستمرار بقوة في مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ورفع المقاطعة يعد عاملا يساهم في زق الخور والانهيار في وريد مقاومة الوجود غير الشرعي للصهاينة في فلسطين.
ولنبدأ بما حدث في العام ، إذ كانت بداية إقرار مشروع قيام «إسرائيل» بعد أن التقت الصهيونية مع الاستعمار العالمي بزعامة بريطانيا على ضرورة تكوين «إسرائيل»، ولولا هذا الالتقاء لبقت مساعي الصهاينة مجرد أوهام. فقد كانت بريطانيا العام تمثل أكبر وأعظم إمبراطورية استعمارية، وقادها تفكيرها إلى التحرك نحو تحقيق اتحاد استعماري ذي جبهة موحدة، حتى يتم تحاشي المنافسة بين الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإيطاليا واسبانيا، لتقطع الطريق على الحركات الوطنية التحررية من الاستفادة من المصادمات المحتملة بين أعضاء النادي الاستعماري.
بعدها قام رئيس وزراء بريطانيا كامبل بنرمان (حزب الأحرار) بتكوين لجنة من مشاهير المؤرخين وعلماء الاجتماع والجغرافيا والاقتصاد، ومن مختلف التخصصات والجامعات، لأداء المهمة المطلوبة. وألقى كامبل خطابا في أعضاء اللجنة، فحواه «إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما، ثم تنحل رويدا وتزول». وضرب مثلا بما آلت إليه إمبراطوريات روما والهند والصين وقبلها بابل وآشور...الخ. ثم سألهم: «هل لديكم وسائل يمكن أن تحول دون السقوط والانهيار، أو تؤخر مصير الاستعمار الأوروبي... هذه مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا».
خرج تقرير اللجنة بعد مدة من الدراسات المعمقة، ولما رأت وزارة الخارجية البريطانية خطورة ما فيه اختفى، وظل منسيا حتى ظهر مرة أخرى قبل الحرب العالمية الأولى. التقرير قلل من خطر المستعمرات الأخرى، كالهند الصينية وغيرها، ولكنه أكد على أن الخطر يكمن في حوض البحر المتوسط، وعلى أن التعليم لو دخل هذه البلدان مع الوسائل الفنية الحديثة ومكتسبات الثورة الصناعية، وتمكن أهلها من ثرواتهم الطبيعية، عندها ستحل الضربة القاضية بالإمبراطوريات الاستعمارية.
يقول الكاتب شفيق الرشيدات: «وكوسيلة أساسية مستعجلة لدرء الخطر، أوصى التقرير بضرورة العمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي، واقترح إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط آسيا بإفريقيا ويربطهما معاً بالبحر المتوسط، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعداوة لسكان المنطقة». وربما تعمد بعض علماء هذه اللجنة من الموالين للحركة الصهيونية على اختراع هذا الخيار والانحياز إليه، وليس ذلك ببعيد بعد أن ذكرنا مواقف الكثير من علماء أوروبا وفلاسفة ما سمي بعصر التنوير.
وهكذا سارعت بريطانيا سيدة المستعمرين آنذاك ومنذ العام إلى الأخذ بيد الصهاينة الذي يئسوا وتهاوت أحلام تكوين دولة لهم، واتفق الطرفان على تأسيس دولة «إسرائيل» في فلسطين، وتم ذلك العام ، ثم أكملت الولايات المتحدة الدور ومازالت. من هنا فإن غلق مكاتب مقاطعة «إسرائيل» ليس سوى حلقة أخرى في سبيل تكريس الوجود الصهيوني في فلسطين، ومن ثم تمكين «إسرائيل» من التمويل الذاتي الذي يضمن بقاءها بدلا من الاعتماد المتواصل على المساعدات الغربية وخصوصا من أميركا، وذلك عن طريق فتح أسواق الدول المجاورة لمنتجاتها وصناعاتها المتفوقة مرات على جيرانها المقاطعين لها، وفي الوقت نفسه محاصرة الفلسطينيين والاستفراد بهم بعد قطع عمقهم الاستراتيجي الممتد في الشعوب العربية والإسلامية
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1365 - الخميس 01 يونيو 2006م الموافق 04 جمادى الأولى 1427هـ